الدكتور هيثم الزبيدي.. وريادة الإعلام الإلكتروني

الدكتور هيثم الزبيدي وصف الإعلام الإلكتروني بأنه إعلام يتجاوز كل القيود والمحاذير والرقابة ومفتوح للجميع وهو في الوقت نفسه إعلام معرفي شامل قليل الكلفة وأسرع انتشارا.

غادرنا الدكتور هيثم الزبيدي وهو في أوج العطاء والإضافة ليس فقط من خلال موقعه في دار "العرب" باعتباره رئيس مجلس الإدارة ورئيس التحرير التنفيذي، وإنما كباحث متخصص في المجال الإعلامي وكصاحب رؤية إعلامية متجذرة في بيئتها العربية مع انفتاحها الواسع على ما يشهده العالم من ثورة اتصالية متواصلة دون انقطاع ومن تحولات كبرى يشهدها القطاع فكريا وتقنيا ونظريا وتطبيقيا، مع قراءة عميقة لتأثيرات ذلك على الأبعاد السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية والنفسية على الفرد والمجتمع.

خلال المنتدى الخليجي الرابع للإعلام السياسي الذي احتضنته المنامة في أكتوبر/تشرين الأول 2016 رأى الدكتور الزبيدي أن "الناس أصبحوا متكتلين نحو نقاط فكرية معينة،" وقال إن "مشكلة الإعلام العربي أنه معزول بشكل كبير عن الناس، حيث أصبح بعيدا عنهم، ومتى ما حدث ذلك فإنه حتمًا سيفشل،" داعيا إلى ضرورة أن تكون هناك مشاركة حيّة للإعلام حتى يكون هناك تفاعل من قبل الناس، فقد كان الإعلام التقليدي هو الإعلام المسيطر ولم يدع مجالا للإعلام الجديد ليثبت نفسه."

منذ بداية تشكل ملامح الثورة الاتصالية وبداية ظهور الإعلام الإلكتروني كبديل افتراضي للإعلام التقليدي، بادر الدكتور الزبيدي بتأسيس موقع "ميدل ايست أونلاين" في لندن في يوليو 2000 كموقع إخباري شامل ومستقل، وجعل منه في فترة وجيزة واحدا من أهم المواقع الإخبارية العربية من خلال تغطيته الشاملة والموضوعية للأخبار العربية والعالمية والحرفية العالية التي يتمتع بها العاملون فيه.

وصف الزبيدي الإعلام الإلكتروني بأنه إعلام يتجاوز كل القيود والمحاذير والرقابة ومفتوح للجميع وهو في الوقت نفسه إعلام معرفي شامل قليل الكلفة وأسرع انتشارا. وقال خلال محاضرة ألقاها بمجمع أبوظبي الثقافي في فبراير/شباط 2007 إن الإعلام الإلكتروني هو إعلام ديمقراطي بدرجة لا تقبل الشك كما أنه إعلام الآن واللحظة، إن العالم اليوم يقرأ الصحف الإلكترونية بشكل متزايد. وليس من قبيل المبالغة القول إن صحافة اليوم والغد القريب هي صحافة إلكترونية. ليس فقط لأنها بالمجان أو لأن الملايين من البشر يقضون الساعات الطويلة أمام شاشات الإنترنت، ولكن لأنها مختلفة جوهريا عن الصحافة الورقية.

مثابرته كانت ترجمة لقناعته بأن الكلمة الصادقة بمعانيها العميقة تصل إلى قارئها لتنجح في بلوغ هدفها عبر تبليغ رسالتها التي تحمل تجديدا في الفكر التنويري ووعيا بخصوصيات المرحلة وبأن يكون للعرب الموقع اللائق بهم.

واعتمادا على شهادات التاريخ، قال الزبيدي "لعل أهم ما يميز الصحافة المعاصرة هو سرعتها في نقل الخبر. الخان المغولي الكبير لم يعرف أن جيوش ابن أخيه هولاكو اجتاحت بغداد إلا بعد أكثر من شهر على الحدث. وكان للجيش المغولي أفضل نظام بريد أقيم في عصر ما قبل الآلة. لكن رغم ذلك كانت الأخبار تأخذ وقتها حتى تصل،" مردفا "اليوم نحن نعرف ما يجري في العالم بطريقة شبه آنية. وهذا الأمر أصبح حقيقة منذ انتشار البريد البرقي. الناس حول العالم تعرف ما يدور من حولها، وفوق ذلك تهتم به. وحتى وقت قريب كان الراديو مصدر الخبر السريع، لكن هذا الخبر بقي مقتضبا وغير شامل وخاضعا لسلطة إدارات إعلامية تختار ما يلائم تصوراتها فقط."

وفي قراءته لدور الصحافة المكتوبة كان يرى أن الناس تعوّدوا على أن الأخبار تأتيهم في الغد مطبوعة على صفحة الجريدة: تذهب إلى باعة الصحف وتأخذ صحيفتك المفضلة المبوبة إلى أقسام. هذا خبر محلي وذاك إقليمي والآخر عالمي. ومن يريد المزيد عليه الانتظار ربما لأكثر من يوم حتى يدلي المحللون بآرائهم.

ولكن الجرائد، رغم وفرة ما تقدمه، لم تكن كافية، فالنهم للمعلومة صار يتزايد بشكل طردي، كلما توفرت الأخبار، صرنا نريد معرفة المزيد منها وعنا. ونشأت بالنتيجة صناعة موازية هي صناعة المجلات، تلك 'الجرائد' التي لا تهتم بالخبر بل تمعن في التحقيقات والتحليلات وتحلق فيما وراء الخبر وتداعياته. كبرت الدائرة ولم يعد يكفي الخبر وما وراء الخبر في مجلة ذات اهتمامات عامة. صرنا نقول نريد المزيد من ذلك المزيد. جاءتنا المجلات الشهرية المتخصصة وتلك الأكثر تخصصا. ويكاد لا يوجد اهتمام بشري لا يحظى بعدد لافت من المجلات: السياسيون يريدون مجلاتهم مثلهم مثل هواة الطوابع أو الصقارين.

أشار الدكتور الزبيدي إلى "ثورة الترانزستور" التي كانت كافية لأن تقرب العالم من بعضه البعض على نحو لم يسبق له مثيل. وكان كافيا بالنسبة إلى الملايين أن يتجمعوا حول جهاز الراديو ليستمعوا إلى خطاب هذا الزعيم أو ذاك، أو ليصغوا إلى أخبار هيئة الإذاعة البريطانية، وليصدقوها على الفور، أو لتكون حافزا لتغيير مجرى حياتهم، ثم جاء التلفزيون الذي كانت له حصته في تغيير آلية وتقنيات وصول الخبر. ومثل الراديو، كانت هناك سرعة في توصيل الخبر، لكن المشاهد كان يواجه معضلات متعددة، منها أن الخبر يتأخر بعض الشيء، ومنها ما يتعلق بأن القنوات الأرضية في زمن البث التماثلي (الذي يختلف كثيرا عن البث الرقمي) ليست كثيرة وتحتاج أن تعطي حصصا لاهتمامات المشاهدين. كانت تقول للمشاهد ما معناه: تريد أن تشاهد أخبار اليوم؟ عليك بالانتظار حتى تحين نشرة أخبار الساعة التاسعة مساء.

فترة التسعينات من القرن الماضي كانت مفصلية في مسيرة الإعلام، فحتى قبل انتشار البث الرقمي، صرنا نشاهد محطات الـ"سي.أن.أن" أولا بالإنكليزي ثم بدأت المحطات الفضائية العربية بالظهور شيئا فشيئا. ولعل من اللافت أن أغلب المحطات التي كانت تظهر، كان الاهتمام بها يتناسب مع ما تبثه من أخبار أكثر مما يبث من برامج ترفيهية.

ولم يمر وقت طويل حتى صرنا في عصر فضائيات الأخبار العربية التي لا يمكن إنكار أنها غيّرت الوجه السياسي للمنطقة العربية، ثم جاءت شبكة الإنترنت التي انعكست إيجابيا على آلية توصيل الخبر، فقارئ الألفية الجديدة صار يريد الخبر بالتفصيل، في أي وقت وأي مكان. وليس هذا فحسب، بل أصبح يريده مجانيا أيضا. وهذا بالضبط ما تقدمه الإنترنت من خلال المواقع الإخبارية.

الزبيدي وصف الإعلام الإلكتروني بأنه إعلام يتجاوز كل القيود والمحاذير والرقابة ومفتوح للجميع وهو في الوقت نفسه إعلام معرفي شامل قليل الكلفة وأسرع انتشار.

في تلك المحاضرة، قبل 18 عاما من الآن أوجز الدكتور الزبيدي ميزات الإعلام الإلكتروني في كلمات: إنه إعلام ديمقراطي بدرجة لا تقبل الشك. إنه إعلام الآن واللحظة. إنه إعلام يتجاوز كل القيود والمحاذير والرقابة. إنه إعلام مفتوح للجميع. إنه إعلام معرفي شامل. إنه إعلام أقل كلفة وأكثر انتشارا وبلا حدود. إنه إعلام أكثر عملية وتوافقا مع تعقيدات الحياة المعاصرة. إنه إعلام قد يبدأ بصفحة هي واجهة المبنى، إلا أن طوابقها يمكن أن تكون أعلى من ناطحة سحاب.

يمكن اعتبار الدكتور هيثم الزبيدي أحد أهم رواد الإعلام الإلكتروني ليس فقط من باب الممارسة الفعلية ولكن كذلك من بوابة التنظير وصناعة المفاهيم وتحديدها بالاعتماد على قراءة استشرافية للمستقبل.

في 2012 عكس الدكتور تلك الرؤية على صحيفة “العرب” في مزاوجة ناجحة بين نسختيها الكلاسيكية المطبوعة والإلكترونية بالاعتماد على تجربة جديدة في الصحافة العربية عموما وهي التركيز بالأساس على المادة الصحفية الخاصة المنتجة من قبل محرري وكتاب المؤسسة وإعادة قراءة وتحليل مستجدات الأحداث والمواقف إقليميا وعالميا مع العمل على إعادة الاعتبار لمقالات الرأي والأعمدة التي أصبحت واحدة من أهم مميزات "العرب".

الدكتور الزبيدي ذاته كان كاتبا مثابرا في الشؤون السياسية والقضايا الفكرية والأدبية وحافظ على مقاله الأسبوعي في صفحة الآراء إلى آخر إثنين قبل رحيله الفاجع. مثابرته كانت ترجمة لقناعته بأن الكلمة الصادقة بمعانيها العميقة تصل إلى قارئها لتنجح في بلوغ هدفها عبر تبليغ رسالتها التي تحمل تجديدا في الفكر التنويري ووعيا بخصوصيات المرحلة وبأن يكون للعرب الموقع اللائق بهم في عالم يتطور بسرعة استثنائية ولا يمكن اللحاق بحركته القياسية إلا بالتخلي عن الجمود الفكري والتحجر الثقافي والانغلاق الاجتماعي والشعارات السياسية الجوفاء وعن الخطاب العقائدي الموغل في نقليته والعاجز عن إثبات عقلانيته.

هل بقيت ثمة حاجة إلى رئيس التحرير؟ هذا السؤال أجاب عنه الدكتور الزبيدي "نعم، على الأقل إلى أن أنتهي من دفع أقساط البيت، وأحال على التقاعد. ولكني أعتقد أيضا -وهذا ليس تحيزا لوظيفتي- أن رئيس التحرير هو المايسترو في هذه الأوركسترا على حد وصف أحد الزملاء. ولكنه مايسترو من نوع مختلف: يجب أن يكون ملما بالكثير من السياسة والأكثر من الثقافة والفكر والتقنية والعلوم. إنه ليس ذلك الإنسان الذي يضع خطة خمسية لما يجب أن تكون عليه الصحيفة، بل شخص قادر على التقاط الحس الشعبي وجس نبض الاهتمامات بشكل يومي ليحولها إلى تعليمات مبسطة يقدمها للمحررين لكي ينفذوها بطريقتهم. إنه أيضا محرر يشمر عن ساعديه ويعمل مع المحررين حين تدعو الحاجة. وهو شخص ملم بأدق التفصيلات الفنية التي عادة ما تغيب عن كثيرين."