كردستان.. تساؤلات شعب وأزمة شراكة
في كل صباح، يستيقظ الناس في إقليم كردستان على أسئلة موجعة لا تجد لها إجابات: لماذا لا تصل الرواتب في وقتها؟ لماذا يُعامل المواطن الكردي وكأنه غريب في وطن ساهم في بنائه؟ ولماذا، رغم كل التضحيات التي قدمها هذا الشعب، لا يزال يدفع ثمن انتمائه وهويته؟
الواقع هنا تجاوز مرحلة النقاشات السياسية الباردة، وتحول إلى معاناة يومية تلاحق العائلات في تفاصيل حياتها، وتطفئ حماسة الشباب، وتثقل كاهل من أفنوا أعمارهم في سبيل هذا الوطن.
ورغم أن الدستور العراقي يعترف بكردستان كإقليم فيدرالي له خصوصيته وثقافته ولغته، إلا أن هذا الاعتراف ظل في الكثير من الأحيان مجرد كلمات على ورق. المادة 140، التي تعنى بالمناطق المتنازع عليها، بقيت معلقة، ورواتب البيشمركة تُحجب، والشركات التي استثمرت في موارد الإقليم تُقصى دون العودة إلى أيّ اتفاق مشترك. كل هذا يحدث بينما يُطلب من الكرد الالتزام بما لا يُلزم به أحد سواهم، وتحمل مسؤولية وطن لا يمنحهم حق المواطنة الكاملة.
حين قررت القيادة في الإقليم إجراء الاستفتاء عام 2017، لم يكن ذلك تصعيدا أو تهديدا كما صورته الكثير من وسائل الإعلام، بل كان تعبيرا صريحا عن إرادة شعب أنهكه التهميش المتكرر، وكأن الدستور قد استخدم فخا لاحتواء الكرد، لا لبناء شراكة حقيقية معهم. جاءت صرخة الاستفتاء كمحاولة لاستعادة المبادرة وصياغة مصيرٍ بيد كردية خالصة، لكن رد الفعل كان قاسيا داخليا وإقليميا، حيث رُفض الاستفتاء وكأن الكرد ارتكبوا جريمة، لا أنهم مارسوا حقا أقرته المواثيق الدولية ومعاهدات الأمم المتحدة، وأيدته القوى العظمى في عدة مناسبات.
منذ سقوط نظام صدام حسين، ورغم انهيار الدولة بكل مؤسساتها، لم يذهب الكرد إلى إعلان دولتهم، رغم أن الفرصة كانت متاحة، لكنهم اختاروا الدولة والمؤسسات والدستور، وبذلوا الغالي والنفيس من أجل عراق ديمقراطي اتحادي يتسع للجميع. احتضنوا النازحين، وشاركوا في الحرب على الإرهاب عام 2014، وقدموا 2000 شهيد، وفتحوا أبواب مدنهم لكل من فرّ من جحيم الطائفية، ومع ذلك بقيت مشاركتهم تُختزل وتُهمّش وتُنسى بمجرد انتهاء الحاجة إليهم، وكأنهم طارئون في وطنٍ صنعوه بدمائهم.
اليوم، وجع كردستان لم يعد سياسيا فحسب، بل أصبح وجعا إنسانيا حقيقيا. فالأم تبحث عن علاج لطفلها ولا تملكه، والمعلم يذهب إلى مدرسته بلا راتب، والشاب عاطل عن العمل في أرض غنية بالنفط والفرص، لكن الخير فيها محجوب عن أهلها.
هذا ليس حال شعب يطالب بالانفصال في كل لحظة كما يروّج له البعض، بل حال شعب لا يطلب أكثر من حياة كريمة وحقوق أساسية وشراكة محترمة، لا مجرد شعارات تُرفع ثم تُهمّش.
الكرد لا يلوّحون بالسلاح، ولا يمارسون الابتزاز السياسي، بل يريدون فقط أن يُعاملوا كشركاء في هذا الوطن، لا كأرقام هامشية على هوامش الميزانيات والسياسات المتغيرة، التي تُستخدم دائما كوسائل للضغط عليهم. وللأسف، كلما مدّوا أيديهم للحوار، قوبلوا بالتجاهل أو الإقصاء.
إيران وتركيا، كل بطريقته، حاولتا استغلال الفجوة بين بغداد وأربيل، فدعّمتا أطرافا مسلحة للضغط على الإقليم، وتوغّلتا في قراره السياسي والاقتصادي، فيما ظلت الحكومة الاتحادية تتلكأ في تنفيذ التزاماتها، وتغض الطرف عن الحقوق المنصوص عليها في الدستور العراقي.
اليوم، ومع التحولات الجارية وتشكيل حكومة جديدة في الإقليم، لم يعد ممكنا الاستمرار في الصمت أو المجاملة. على القيادة الكردية أن تتحرك بثبات وعزيمة، لا طلبا للانفصال، بل دفاعا عن الكرامة، لأن كرامة المواطن الكردي هي عنوان المرحلة، وحقوقه لا يمكن أن تبقى رهينة مزاج سياسي متقلب في بغداد.
الدولة التي تُبنى على التهميش لا يمكن أن تصمد، والشراكة التي تُفرض لا تُثمر استقرارا. ربما آن الأوان أن تسأل الأحزاب العراقية الحاكمة نفسها بصدق: هل نعامل الكرد كشركاء فعلا؟ هل ننصف من قدّم دمه من أجل وحدة العراق؟ وهل يمكن أن نستمر في بناء بلد واحد على أساس الظلم؟
الشعوب لا تنسى من خذلها، ولا تسامح من تجاهلها وهي تمد يدها بصدق. وكردستان، بكل ما فيها من وجع وكرامة، لا تزال تنتظر الإنصاف من حيث التوازن والتوافق والشراكة، لا الشفقة، ومن حيث الاحترام الحقيقي، لا التذكير المتكرر بوحدة لم تُبنَ بعد على أسس عادلة.