واشنطن وتل أبيب: تحالف الفوضى في الشرق الأوسط

تكمن المعضلة السياسية في أن إيران ليس أمامها سوى خياران كلاهما بالغ الخطورة على بقاء النظام السياسي: فإما التنازل الكامل وإما الانخراط في مواجهة شاملة لا يستطيع النظام تحمّل تكاليفها.

الحملة العسكرية التي بدأتها إسرائيل ضد إيران منذ فجر الجمعة الثالث عشر من يونيو الجاري، أفرزت استقطابات سياسية حادة في المواقف ودفعت الأطراف المختلفة إلى التخندق مع هذا الطرف أو ذاك.

ورغم أن الشعار المعلن لهذه الحملة العسكرية هو "الدفاع عن وجود إسرائيل" من خلال تحييد القدرات النووية والباليستية لإيران، إلا أن الحقيقة التي باتت غير خافية، وتتعامى عليها الإدارة الأميركية والدولة الإسرائيلية بطبقتها الحاكمة بشكل مغرض، تكمن في السعي لإعادة رسم التوازنات السياسية في المنطقة، ومحاولة لإعادة التموضع الأميركي عبر إسرائيل في الشرق الأوسط.

تحاول دولة إسرائيل أن تسوّق نفسها كقوة إقليمية مهيمنة في المنطقة، مستغلةً عملية السابع من أكتوبر 2023 وما تبعها من أحداث في غزة لتوسيع نفوذها العسكري وتحقيق إستراتيجيتها السياسية في الهيمنة الإقليمية.

وقد سادت في الأوساط السياسية خلال زيارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب إلى دول الخليج أوهام عديدة، مفادها أن الولايات المتحدة قد تتخلى عن إسرائيل لصالح تحالفات جديدة مع تركيا، ودول الخليج، في ظل الصفقات الاقتصادية الضخمة التي أبرمت مع هذه الدول، إلا أن الوقائع التاريخية، ومن زاوية الإستراتيجية الأميركية، تؤكد أن دولة إسرائيل تشكل حلقة إستراتيجية محورية في السياسة الأميركية بشكل خاص، وفي السياسة الغربية والأطلسية بشكل عام.

هناك سببان أساسيان يمنعان تجاهل هذا الارتباط العميق: أولا، إن دولة إسرائيل نشأت في المنطقة ضمن إطار العقيدة الاستعمارية الغربية، ونظامها السياسي "الديمقراطي" هو انعكاس للنموذج السياسي الغربي.

وبالتالي فإن وجود إسرائيل قائم ومرتبط بالدعم الغربي، وفي مقدمته الدعم الأميركي. فالعلاقة بين إسرائيل والغرب، وعلى رأسه الولايات المتحدة، تتجاوز مفهوم التحالف التقليدي، بل هي علاقة تكامل إستراتيجي تشمل الجوانب الأمنية والعسكرية والتكنولوجية والاقتصادية والسياسية.

ومن هنا لا يمكن بأي حال من الأحوال فصل العلاقة العضوية بين إسرائيل وأميركا.  ثانيا، إن النزعة القومية والمعادية لأميركا وإسرائيل في المنطقة هي من بين أقوى النزعات المناهضة للغرب في العالم بأسره.

هذه النزعة أصبحت جزءا من وجدان الجماهير في المنطقة، نتيجة الجرائم الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني والدعم الأميركي المتواصل لها، إلى جانب السياسات الإمبريالية الأميركية في المنطقة.

وبمعنى آخر، لا توجد دولة أخرى تستطيع أو تجرؤ على شغل الموقع الذي تحتله إسرائيل في الإستراتيجية الأميركية، نظرا لما تمثله هذه النزعة من مخاطر دائمة في وجه أي بديل محتمل.

وهذه النزعة كانت ومازالت جزءا من صياغة الهويات القومية والإسلامية لتعريف نفسها وتعبئة الجماهير لمعارضة الأنظمة السياسية الحاكمة.

أما تركيا، فهي دولة تسعى بدورها للحصول على موقع إقليمي متميز، بل وتعمل على توسيع نفوذها إلى خارج المنطقة، وصولا إلى أفريقيا، وبلدان الاتحاد السوفيتي السابق، والخليج، وغيرها.

إنها قوة تسعى خلف مصالحها القومية المستقلة، وبينت سياستها تجاه التسليح وشراء منظومة أس – 400 الروسية واتخاذ موقف متوازن من الصراع الأوكراني – الروسي أنها لا تستطيع أن تحتل الدور الإستراتيجي الذي تمثله إسرائيل بالنسبة للولايات المتحدة.

من خلال هذه اللوحة السياسية، ينبغي النظر إلى ما وراء الحملة العسكرية الإسرائيلية على النظام السياسي في إيران. فالنظام الإيراني يشكّل العائق الأكبر أمام تمدد إسرائيل وهيمنتها العسكرية والسياسية.

النظام السياسي في إيران نظام رجعي، استبدادي، مجرم، معادٍ لكل ما هو إنساني، نظام قائم على الإعدامات، إهانة الإنسان، وانتقاص كرامته، يعرّف هويته على أساس دونية المرأة، ويسعى لفرض هيمنته القومية على المنطقة

وفي الوقت ذاته، تُعدّ إيران منصة إستراتيجية للتمدد الروسي والصيني في الشرق الأوسط، إذ لدى كلا البلدين على سبيل المثال استثمارات تصل قيمتها إلى 500 مليار دولار في الاقتصاد الإيراني.

ويأتي استهداف إسرائيل بمحيط حقل "بارشين" الغازي – والذي هو أكبر الحقول الغازية في العالم – بمثابة رسالة موجهة إلى روسيا، كونه جزءا من هذه الاستثمارات.

وينطبق الأمر ذاته على الصين، التي تخوض صراعا متصاعدا مع الولايات المتحدة حول ملف تايوان والسيطرة في المحيط الهادئ، بالإضافة إلى النزاعات التجارية المتعلقة بالرسوم الجمركية والسياسات الاقتصادية.

وينطبق الأمر ذاته على تركيا، التي ترى في انتصار إسرائيل تراجعا سياسيا لمكانتها، كما أن سقوط النظام السياسي في إيران، في حال حدوثه، يعني عمليا تفكيك الإستراتيجية التركية وضياع الجهود التي بذلتها لتأمين موقع متقدم لها في المنطقة.

وتعود المسألة القومية الكردية إلى الواجهة من جديد، وقد جاءت تصريحات حزب بيجاك، الجناح الإيراني لحزب العمال الكردستاني، بإعلان استقلال كردستان إيران، مستغلا الأوضاع المضطربة الناجمة عن الحرب الدائرة بين إيران وإسرائيل.

تكمن المعضلة السياسية في أن إيران ليس أمامها سوى خياران كلاهما بالغ الخطورة على بقاء النظام السياسي: فإما التنازل الكامل كما فعل الخميني عند إعلانه وقف الحرب مع العراق بأنه كما "يتجرع السم"، وهو خيار يصعب على النظام الإيراني تحمله لما يحمله من تداعيات خطيرة على استقراره الداخلي، وإما الانخراط في مواجهة شاملة لا يستطيع النظام تحمّل تكاليفها، خاصة إذا ما دخلت الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا على خط الحرب بشكل مباشر.

إن الحفاظ على بقاء النظام السياسي يمثل أولوية إستراتيجية قصوى بالنسبة للجمهورية الإسلامية.

أما ما صرّح به الرئيس الأميركي دونالد ترامب من أنه كما أوقف الحرب بين باكستان والهند سيتمكن من وقف الحرب بين إسرائيل وإيران، فلا يعدو كونه هراءً سياسيا لا أساس له من الواقع، ويشبه في طابعه تصريحات مماثلة أطلقها بشأن إنهاء الحرب في غزة والحرب الروسية – الأوكرانية.

إن التجربة التي عشنا أحداثها التراجيدية وبمرارة في العراق بعد الغزو والاحتلال الأميركي لا تقارن بما يمكن أن تؤول إليه الأوضاع في حال سقوط النظام الإيراني نتيجة الغزو أو الضربات العسكرية، إذ ستدخل المنطقة في دوامة جديدة من الفوضى السياسية والأمنية، وقد يتطور الوضع إلى انخراط المزيد من الدول في أتون هذه الحرب.

بالنسبة لنا، ولكل إنسان حر يتمتع بعقل سليم وتحركه النزعة الإنسانية، فإن الحملة العسكرية الإسرائيلية التي تحوّلت إلى حرب دامية بين الطرفين، من شأنها أن تفرض التراجع على كل الحركات المدنية التي تناضل من أجل انتزاع الحريات السياسية، والحقوق المدنية، وتحسين مستوى المعيشة وظروف حياة العمال والنساء والشباب في العراق وإيران بشكل خاص.

صحيح أن النظام السياسي في إيران هو نظام رجعي، استبدادي، مجرم، معادٍ لكل ما هو إنساني؛ نظام قائم على الإعدامات، إهانة الإنسان، وانتقاص كرامته، يعرّف هويته على أساس دونية المرأة، ويعادي الحريات السياسية والشخصية، ويستعبد الطبقة العاملة، ويسعى لفرض هيمنته القومية على المنطقة تحت غطاء أيديولوجيا رجعية معادية للتقدم.

لكننا لا ننطلق في مواقفنا من منطلق نزعة معاداة الإسلام السياسي أو النزعة المعادية ضد الإمبريالية، بل من موقع رفض الاستبداد والظلم الاقتصادي والسياسي والاجتماعي.

ولنطرح السؤال ببساطة: ماذا لو كان بديل النظام القائم في إيران هو البديل الذي تسعى الولايات المتحدة وإسرائيل إلى فرضه؟ لقد رأينا في العراق ما فرض علينا من بدائل بعد الاحتلال الأميركي، ولا تزال نتائجه المدمرة قائمة حتى اليوم.

ثم كيف يمكن لدولة متورطة في قتل أكثر من 20 ألف طفل بريء في غزة، أطفال لم تتفتح أعينهم بعد على هذه الحياة، ورئيس وزرائها مطلوب للمحكمة الجنائية الدولية، أن تشكل بديلا مقبولا لجماهير إيران؟