عودة أكثر من مليوني سوري... مؤشرات على تحسّن الوضع الأمني
دمشق – تشهد سوريا تحوّلًا تدريجيًا في المشهدين الأمني والسياسي، تُرجم مؤخرًا بعودة أكثر من مليوني لاجئ ونازح إلى ديارهم منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي، بحسب ما أعلنه مفوض الأمم المتحدة السامي لشؤون اللاجئين فيليبو غراندي، الذي وصف هذه العودة بـ"مؤشر أمل وسط التوتر المتصاعد في المنطقة" خاصة مع تحسن الوضع الامني في الداخل السوري.
ويأتي هذا التطور بعد سنوات من النزاع الذي دمّر أجزاء واسعة من البلاد، وتسبب في نزوح نحو نصف سكان سوريا داخليًا وخارجيًا، منذ اندلاع الأزمة عام 2011. لكنّ التحوّلات الأخيرة، من حيث استقرار السلطة في دمشق، وتراجع وتيرة العنف، وانفتاح محيطها العربي والخليجي عليها، تشكّل اليوم بيئة جديدة تدفع بالآلاف من السوريين إلى التفكير بالعودة، خاصة من دول الجوار مثل لبنان، الأردن، وتركيا.
وأعلنت تركيا وحدها عن عودة أكثر من 273 ألف لاجئ سوري كانوا على أراضيها منذ نهاية العام الماضي، في وقت قدّرت فيه مفوضية اللاجئين عدد العائدين من الخارج بنحو 500 ألف شخص حتى يونيو/حزيران. ويفيد مراقبون أن عودة هذا العدد في فترة قصيرة نسبياً، يعكس قناعة متزايدة بأن الأوضاع داخل سوريا بدأت تتجه نحو مزيد من الاستقرار، في ظل تغييرات داخلية كبيرة، أهمها إطاحة الحكم السابق وتولي الرئيس الانتقالي أحمد الشرع مقاليد السلطة منذ كانون الأول/ديسمبر الماضي.
وتسعى السلطات السورية الجديدة إلى دفع عجلة التعافي الاقتصادي تدريجياً، في أعقاب رفع للعقوبات الأميركية وتخفيف العقوبات الأوروبية، وهو ما أتاح للبلاد هامشاً أوسع للتحرك اقتصادياً ودبلوماسياً. وقد شمل هذا الانفتاح فكّ العزلة الإقليمية، حيث أعادت عدة دول عربية، على رأسها السعودية والإمارات، علاقاتها الرسمية مع دمشق، وشاركت في مؤتمرات إقليمية تناولت ملف إعادة الإعمار وعودة اللاجئين.
كما باتت سوريا مرشحة في المرحلة المقبلة لاستقبال استثمارات عربية وأجنبية في قطاعات الطاقة، والبنية التحتية، والصحة، والزراعة، ما من شأنه أن يعزز فرص العمل ويشجع المزيد من اللاجئين على العودة، خاصة مع إعلان خطط لإعادة الإعمار تقدّر كلفتها بنحو 400 مليار دولار، وفقًا لتقديرات الأمم المتحدة.
وبالنسبة لدول الجوار، فإن موجة العودة هذه تُعد بارقة أمل لتخفيف الضغط المتراكم على اقتصاداتها وأنظمتها الاجتماعية. ففي لبنان، يشكّل الوجود السوري ملفاً سياسياً وأمنياً واقتصادياً شائكاً، وتُقدَّر أعداد اللاجئين فيه بنحو مليون ونصف لاجئ، فيما يشكّل السوريون في تركيا كتلة بشرية كبيرة تتجاوز الثلاثة ملايين شخص، ما أدى إلى تصاعد الخطاب الشعبوي المناهض لهم خلال السنوات الأخيرة.
غير أن التحديات لا تزال حاضرة، خاصة في ما يتعلق بضعف البنية التحتية، ونقص الخدمات الأساسية، وفرص العمل في المناطق التي يعود إليها السوريون. وأشارت المنظمة الدولية للهجرة إلى أن "نقص الفرص الاقتصادية والخدمات الأساسية يشكل التحدي الأبرز أمام عودة السوريين"، ما يعني أن وتيرة العودة ستظل مرتبطة بقدرة السلطات على تحسين الظروف المعيشية بسرعة وعلى نطاق واسع.
وفي هذا الإطار، تواصل الحكومة الانتقالية في دمشق إطلاق برامج تنموية ومشاريع إعادة تأهيل للمرافق العامة، بدعم من منظمات دولية وشركاء إقليميين. كما تعمل على تعزيز سلطة الدولة في مختلف المناطق وتوسيع حضورها المؤسساتي لتقليص الاعتماد على الجهات غير الرسمية التي برزت خلال سنوات الحرب.
وتسعى دمشق كذلك إلى طمأنة السوريين في الخارج من خلال إصدار عفو عام، وتقديم ضمانات بعدم ملاحقة العائدين، وهو ما تطالب به الأمم المتحدة والجهات الدولية المعنية بملف اللاجئين كشرط أساسي لنجاح العودة الطوعية.
وفي ظل هذه التحوّلات، تبقى عودة السوريين إلى وطنهم مشروطة باستمرار الاستقرار الأمني، وتحقيق انفراجة اقتصادية حقيقية، واستمرار الدعم الإقليمي والدولي لإعادة الإعمار، ما يفتح الباب أمام مرحلة جديدة من التعافي بعد أكثر من عقد من الدمار والشتات.