الديستوبيا الناعمة ومجتمع رواية "2063"

أحداث رواية معتز حسانين، تدور في ستينيات القرن الحادي والعشرين، وتنتمي لفكرة "عصر العسل" كما صورها عدد من كتاب الخيال العلمي.
الرواية ترى أن البلاد تسير بدقة الساعة، لكنها في حقيقتها صورة مخيفة حيث تصحر الإرادة الإنسانية
الروائي يستخدم خاصية التماثل السردي بين حركة نفسية داخل الشخصية الروائية، وحركة خارجية في الطبيعة

تدور أحداث رواية "2063" للروائي الشاب معتز حسانين، كما أشار عنوان الرواية في ستينيات القرن الحادي والعشرين، وتنتمي لفكرة "عصر العسل" كما صورها عدد من كتاب الخيال العلمي، حيث قولبة الإنسان وتنميطه وتحويله للآلية. 
عقب نشوب حرب نووية وضرب منطقتي القاهرة والجيزة بقنابل نووية تسببت في مذبحة راح ضحيتها ستة ملايين مواطن، تمكن الحلف الدولي الغربي "تمدا" من السيطرة على مصر، وتخليص البلاد من الإشعاع النووي، وبناء مدن جديدة، وتخفيض البطالة إلى الرقم صفر. 
تصف الرواية أن البلاد كانت تسير بدقة الساعة، لكنها في حقيقتها صورة مخيفة حيث تصحر الإرادة الإنسانية، وسحق سعادة الناس وحريتهم، وصفت بأدبيات الخيال العلمي أنها سعادة زائفة يغذيها التقدم العلمي المطرد، لكنها مثل سعادة السائمة التي يتم إطعامها بصورة جيدة، لكنها بلا حرية أو إرادة أو إنسانية، وتمثلها السرد هذه الفكرة ضمنًا، فكأن الناس سائمة في حظيرة مكيفة متخمة، حيث الأسوار التي تحجب وتحرم رؤية البحر، بما يعني تحريم الرحابة والفضاء المفتوح وسحق الطبيعة، وتحريم الثقافة ومنع السفر، وحظر التجوال بالليل، وتجريم القراءة، وإتاحة المتع الرديئة مثل عقاقير الهلوسة والبهجة، ثم خضوع المواطنين لفحوص فترية كل ثلاثة شهور لقياس درجة رضا المواطن، وقتله إذا لم تتجاوز نسبة رضاه 95%.
ويستخدم الروائي خاصية التماثل السردي بين حركة نفسية داخل الشخصية الروائية، وحركة خارجية في الطبيعة، حيث يقطع "يوسف" الطريق متوجهًا إلي إدارة رضا المواطن: (أثناء سيري وإنهماكي في مراقبة لون السحب القليلة وهي تتحول من الإرجواني الباهت إلى الرمادي وُتمزج في سترة الليل الآخذة في السواد) في إشارة واضحة لانسحاب الحياة وضمورها.

الخاتمة تبقى مفتوحة ليستمر الصراع بحركة القطار ومطاردته في الصحراء يحمل الفارين رغبة في غد أفضل للإنسان

ويستعين الروائي بنواحٍ تشكيلية طباعية تم منحها دورًا سرديًا مهمًا، حيث ورد نص الرسالة المرسلة من قبل إدارة رضا المواطن ونصها: "عزيزي السيد/ يوسف علي / يُرجي العلم أنه تم إعفاؤك من تأدية مهامك الوظيفية اليوم 15 يوليو 2063، لكي تتمكن من الاستعداد للفحص الربع سنوي لنظام رضا المواطن بمنطقة الاسكندرية. / يرجي عدم التأخر عن ساعة حظر التجوال، والتي تبدأ في الثامنة مساءً طبقًا للمنطقة الجغرافية التي تقيم بها. / نتمني لك قضاء يوم ممتع. / مع تحيات إدارة رضا المواطن". 
كانت الرسالة ببنط طباعي ونوع خط حر وتنسيق مغاير للرواية، وهذه الناحية التشكيلية تؤدي دور إزالة المؤشر اللفظي للتصدير للرسالة، كما تحمل الخطاب الضدي المضمر – مفهوم المخالفة - في إهاب الرسالة، فإدارة رضا المواطن في حقيقتها هي إدارة قسر المواطن وتدريبه للإذعان التام، حيث نصت علي حظر التجوال، والنذير بالاغتيال حال ضمور نسبة الرضا ووصولها للحد غير المسموح به، أنها فكرة تناقض الخطابات بين جوهر فظيع وكلمات براقة.
لهذا التناقض نجد حديث العيون تتشرب به الرواية، حيث حالة الخرس الجماعي، وضيق التنفس الاجتماعي، فتحدثت نوافذ الأرواح (العيون)، فالمجتمع الديستوبي المظلم تسوده لغة حوار تداولية ناقمة، حيث النفور والتصحر الجمعي في العلاقات الإنسانية، فاللعن والسباب لغة معتمدة، والعزلة والنفور من الآخر والوحدة هي السمة المستقرة في أفق هذا المجتمع المسكين: "اعتذرت له متعللا بأنني أريد أن أقضي وقتي الأخير بمفردي"، والبائع "اكتفي أن يرمقني بنظرة خالية من أي حياة، نظرة رجل ميت أردت أن أخبره: اللعنة عليك"، ولم يخبره فحلت نظرات الكراهية: "فقد رمقني بنظرة من نوعية: اذهب إلي الجحيم"، فالعيون بديلا عن الكلام: "نظرتها الساخرة"، "وتمكن الفزع من عينيها"، حتى أصبحت العيون بذاتها وسيلة للإدراك: 
"الضوء الأزرق يومض كدقات القلب ينعكس على عينيه في تكرار وصبر كجلاد يجلدني بسياطه"، والشواهد كثر عن حوار العيون بحيث لا تكاد تخلو منها صفحة من صفحات الرواية.
وإذا كانت مصطلح "الديستوبيا" ينتمي للمعني الحرفي الذي يعني "المكان الكريه" فهو المكان الضدي للمدينة الفاضلة "اليوتوبيا"، والتي تعني بدورها الحلم أو الفردوس الأرضي المفقود أو حرفيًا اللامكان، بينما "الديستوبيا" تعني المجتمع الذي لا ينتمي إلي الحاضر والذي يخيم عليه البؤس، ويلف مجتمعه الخوف الذي يجرد الناس من آدميتهم بعد تغول الشرور وتمكنها من مفاصل المجتمع، وأرى تأسيس مفهوم يتصل بالديستوبيا الناعمة القائمة علي قائم ثقافة "أزرع الفسيلة والقيامة قائمة"، بمعني أنه رغم قتامة الصورة المرعبة للمستقبل، فهناك إرادة فعل لتغيير الواقع الديستوبي الشرس، مما يجعل هذه الديستوبيا "ناعمة" قابلة للتغيير، بينما الديستوبيا "الخشنة" فهي التي تنتهي كما عاشت مجتمعاتها الروائية نهايات مأساوية مرة بلا أدني أمل في تحقيق التغيير المنشود وإنقاذ الإنسان.

من الخيال العلمي
الفكرة مبتكرة في إطار المستقبل الجهم 

والتشغيل في التغيير للمستقبل برواية "2063" جاء عبر تحريك وتبديل مسار الكتلة الحدية في المجتمع الديستوبي الشنيع، وضمها للثورة أو بمعنى أدق للواقع البديل، أو المجتمع الحر، بالرحيل بطوائف من الفارين "الواعين" من الجحيم عبر خط قديم للسكة الحديد بالصحراء الغربية، ولأهمية هذه الكتلة "الفريق الثالث" التي ترجح ميزان الصراع لصالح من تميل إليه من بين فريقين: الفريق الأول: وهم الثوار أو "فريق الفردوس" الذين يلتقطون المواطنين على أبواب مشافي الفحص الدوري – ومنها مشفي مكتبة الاسكندرية التي تم إحراق كتبها وتحويلها لمركز فحص للرضا - القاتل للروح أو الحياة على سواء. 
وأيًا كانت نتيجة الفحص حيث الناس الأحياء هم أموات حقًا دون إعدامهم، وحيث إنفاذ الموت المادي بحق بعضهم قد تبرق داخلهم إرادة إنسانية والشغف بالحرية، وفريق "قاطني العمارة": مسلوبي الإرادة الساهرين والمتحمسين للنظام الديستوبي. بينما الكتلة الحدية فهي الطبقة الوسطي التي ينتمي إليها بطلا الرواية (يوسف علي / هبه اسماعيل) حيث انخرطا في المغامرة الخطرة دون إرادة منهما معًا، أي تحويل مسارهما من السلبية إلي الإيجابية، فيوسف كانت طبيعته استسلامية يستقبل مصيره المحتوم في سلبية، ثم اضطر أن يرتدي ثوب البطولة عندما لم تقتله المراقب "هبه" عندما لم يحصل على نسبة رضا المواطن المطلوبة، وأصبح فجأة يحمل الجميل لها، ومسئولا عنها، وهبه رغم أنها كانت صاحبة إرادة في عدم إنفاذ الإعدام بيوسف وإيقاظه وتحريره من الموت، ألا أنها كتلة هشة من الأعصاب، حيث انهارت خمس انهيارات عصبية في الرواية، وهي في أول يوم عمل لها أعدمت ثلاثة من المواطنين قبل أن تحترق أعصابها وتقرر إيقاف المجزرة وتحرير المواطن "يوسف". 
وتبقى الخاتمة مفتوحة ليستمر الصراع بحركة القطار ومطاردته في الصحراء يحمل الفارين رغبة في غد أفضل للإنسان.
الرواية تنتمي للرواية القصيرة (نوفلا) حيث التركيز لموقف الفحص الفتري والفرار منه، وهناك تقطير سردي، وحتي لو تم تصنيف النص باعتباره ينتمي أكثر إلى "القصة القصيرة الطويلة"، فهو بدون شك "رواية في معطف قصة قصيرة"، وكان يمكن الإشباع أكثر، فالقماشة المتاحة واسعة، والفكرة مبتكرة في إطار المستقبل الجهم مع تأصيل لفعل زرع الفسيلة والديستوبيا قائمة.