بشارة الخوري نشوة الفرح وحسرة الزوال

بشارة الخوري كان شاعرا فذا أدرك طبيعة الشعر وسره فنزه شعره عن أن يكون نظما، وألقى به في أحضان الجمال متعبدا في محرابه.
الشعر هو الإمساك باللحظة، والإنقاذ لها من العدمية وإصباغ المعنى عليها تنزيها لها عن العبثية والعماء
قارئ شعر الخوري يقف على حقيقة مفادها أن شعره يحوم حول الجمال أنى ترصده الشاعر في الوجوه أو في الموسيقى أو في النصوص الأدبية

ليس في أدباء لبنان المحدثين من مثل روح لبنان فكان صورته الصادقة مثل الشاعر الكبير بشارة الخوري أو الأخطل الصغير (1885-1968)، فقد كان نسمته المنعشة تهب على القارىء فتنفحه بأريج الخزامى والعرار، فشعره انعكاس لطبيعة لبنان وأطيافها الأخاذة المازجة بين بهرج الألوان وتناسقها في غير نشاز أو تكلف، إنه الصوت الذي يبرعم في وجدان القارىء وينشر أفنانه في روحه على مدى العمر مذكرا إياه بشواهق صنين ومرابع زحلة ودروب كفر شيما وسواحل صيدا وصور حيث زرقة البحر تلقي بأمواجها معانقة الشاطىء الذهبي وقد استلقت عليه الأبكار يتضاحكن ويتغامزن على المار قبالتهن شارد الذهن مفتونا بسحرهن، وقد أشعلن في القلب نارا وبثثن في الروح حنينا لمعانقة الجمال والإمساك به حتى لا تحجبه غيوم الزمن وعواديه.
كذلك كان بشارة الخوري شاعرا فذا أدرك طبيعة الشعر وسره فنزه شعره عن أن يكون نظما، وألقى به في أحضان الجمال متعبدا في محرابه، محرقا البخور بين أقدام أبولون لعله يبارك شعره ويمنحه إكسير البقاء.
وليس يعني هذا عند الأخطل الصغير التنكر للقضايا الوطنية والقومية وقصر الشعر على وصف لواعج الهوى ونشوة المدام، مادام الشعر هو الإمساك باللحظة، والإنقاذ لها من العدمية وإصباغ المعنى عليها تنزيها لها عن العبثية والعماء، وليس الشعر ما يثير الغرائز فقد تتكفل بذلك أحط الصور وأحط أنواع الموسيقى، وفي ذلك إهانة للشعر وتطاول على عصمة الروح الشعرية المصونة عن الإسفاف والتردي، وما خلق الله الشاعر ليكون شاعرا تحت الطلب يدبج القصائد إرضاء للحاكم وبطانته ويمجد الأيام والوقائع بناء على طلبات سياسية أو إيديولوجية، فالشاعر قلب كبير يرفض الإكراهات والإملاءات ويتمرد عليهما، وكما يفهم الشعر على أنه رؤيا تنزل منه منزلة اللحمة وينزل الإيقاع منزلة السدا لا تفوته أبدا نكبات أمته وأفراحها وتعشق أبناء الوطن للرفاه والتقدم والحرية، فتراه يدلي بدلوه في القضايا الوطنية والقومية عن غيرة صادقة وود خالص وشهامة إنسانية بلا تكلف أو رياء حتى لا تسف به الأيديولوجيا وتقصيه عن مملكة الشعر. 

الأخطل الصغير
لم لا تقولون أن الغرب مضطرب ** لم لا تقولون أن الشرق مضطرم

وهو لم يطوف في العالم الجديد كما طوف شعراء الرابطة القلمية أو العصبة الأندلسية وأقام في لبنان إلى وفاته إلا أنه أدلى بدلوه في القضايا السياسية لوطنه الصغير لبنان ووطنه الكبير العالم العربي، يدفعه إلى ذلك حرصه على نهضة الأمة وتحطيم أغلال الاستعمار الأجنبي أو الاستبداد السياسي، وإذ أصدر جريدة "البرق الأدبية" الأسبوعية ثم اليومية فقد كان حريصا على نشر الأدب الرفيع والارتقاء بالبيان العربي إلى عصره الزاهر، ولم شمل أدباء لبنان لتكون البرق منبرهم الحر، وهو إن تردد على بغداد أو دمشق أو القاهرة ،وهي حواضر الثقافة العربية فلإلقاء قصيدة أو تأبين زعيم، يحدوه في ذلك الأمل في وحدة عربية يكون الشعر باني أساسها وموطد دعائمها :
فـلولا خلال سنها الشعـر ما درى ** بناة المعالي كيف تبنى المكارم
وإنه لحقيق بإمارة الشعر التي بويع أميرا عليها في بيروت عام 1961 فقد كان استمرارا لجيل الشعراء الكبار كالبارودي وشوقي وحافظ ومطران، كما كان قلبا رؤوما تشغله قضايا أمته فيفرح لفرحها ويحزن لحزنها .
وها هو الشاعر في مرثاته لسعد زغلول (1857 - 1927) يكشف عن حس قومي ونبالة عروبية ونزعة إنسانية، واقرأ له هذا المقطع يرثي زعيم مصر الكبير ومؤسس حزب الوفد لتقع على صحة هذا الرأي :
قالوا دهت مصر دهياء فقلت لهم ** هل غيض النيل أم زلزل الهرم؟
قالوا أشد وأدهى قلت ويحكم ** إذن لقد مات سعد وانطوى العلم
لم لا تقولون أن العرب قاطبة ** تيتموا كان زغلول أبا لهم
لم لا تقولون أن الغرب مضطرب ** لم لا تقولون أن الشرق مضطرم
لطف المسيح مذاب في حناجره ** وعزم أحمد في جنبيه يحتدم
صلى عليه النصارى في كنائسهم ** والمسلمون سعوا للقبر واستلموا
وفي البيت الأخير ترى الشاعر يذكر النصرانية إلى جانب الإسلام كما كان ذلك دأبه مؤكدا الأخوة العربية، حيث يتعانق الهلال والصليب، فلن يكون اختلاف الدين سببا في الخلاف والبغضاء والفرقة، فالمسيحية والإسلام دوحتان وارفتان يستظل بهما أهل لبنان ومصر درءأ لقيظ السياسة ووعثاء الطائفية في ود كبير وهما دوحتان نبتتا في تربة المشرق فكانتا من مآثره وآيات تفرده. 
وفي ديوان بشارة الخوري "الهوى والشباب" قصائد كثيرة تميزها سلاسة اللغة مع حرية الشاعر وتمكنه من البيان العربي، وأصالة الخيال الذي يتوكأ عليه الشاعر فيسعفه أحيانا بالصور الشعرية الفريدة، وأما الموسيقى في ثنايا النص ذاته أو خارجه فهي روح شعره كأنها النخاع الذي يملأ تجويف العظم ويمده بأسباب القوة والبقاء .
ولا شك أن قارئ شعره يقف على حقيقة مفادها أن شعره يحوم حول الجمال أنى ترصده الشاعر في الوجوه أو في الموسيقى أو في النصوص الأدبية، ولا شك أن طبيعة لبنان قد أيقظت حواسه لتذوق الجمال كما أنه أفاد من إتقانه الفرنسية واطلاعه على عيون الأدب الفرنسي خاصة أدب هوغـو ولامارتين وألفريد دي موسيه وألفريد دي فينه ورامبو وبودلير، وفي ديوانه بعض النصوص المعربة عن الشعر الفرنسي التي تكشف تأثره بالثقافة الفرنسية غير أن ميوله العربية أشد وأقوى .
لقد كانت حياة الأخطل الصغير كشاعر وإنسان تترنح بين ثنائية لا مناص من الإفصاح عنها إنها ثنائية السرور والحسرة، فما ذكر الجمال والحب والخمرة والأنس والنشوة إلا أعقبه بذكر الخوف والزمن الحامل معوله لهدم الأحلام وإحراق الرؤى وإصابة الخلايا بالعجز والتلف، ويدفع الشاعر رغما عنه إلى الحنين إلى طفولته وشبابه حيث القوة واللا مبالاة وشرخ الشباب الفتان :
هل لي إلى تلك المناهل رجعة ** فلقد سئمت الماء غير قراح
رجعى يعود بي الزمان كأمسه ** صهباء صارخة وليل ضاحي
أشف روحها وأعطي مثلها ** روحا وأسلم ليلتي لصباحي
روح كما انحطم الغدير على الصفا ** شعبا مشعـــبة إلى أرواح
للحب أكثرها وبعـض كثـيرها ** لرقى الجمال وبعضها للراح
ولعل الشاعر قد كفى القارئ والباحث كليهما مشقة البحث في خصائص شعره وسر حياته لما تلقب بالأخطل الصغير، فهو قد طمح في حياته الأدبية إلى أن يضاهي شاعرية الأخطل ويمتلك رؤيته الشعرية وقدرته البيانية، ولعل الأخطل الكبير كان قدوة الأخطل الصغير الذي يقول في الكأس والوتر داعيا إلى الصخب ودرء النوم الموحي بالهجوع :
يا صارف الكأس عنا لا تضن بها ** ويا أخا الوتر المكسال لا تنمِ
أدر علينا من الصهباء أفتكها ** وخدر العصب المحموم بالنغم
قد يشرب الخمر من تعلو الهموم به ** وقد يغني الفتى من شدة الألم
وكأن الانسان عند الأخطل الصغير لا يعيش إلا لأجل سويعات صفاء يمسح بها الكدر عن قلبه وينتشي بسرور يراه مهيمنا في مجلس أنس ولا يذكر الشاعر الخمرة إلا قرنها بالنغم، وكأن نشوة المدام لا تتأتى إلا بنشوة الإيقاع .

والأخطل الصغير شاعر غزلي، وهل يغض الشاعر طرفه عن الجمال الكائن في الخد الأسيل والقد المياس والعين النجلاء والصدر المرمري؟ والمرأة ملهمة الشعراء ودرة الوجود ومعقد السحر والفتنة والقرب منها من نعيم والبعد عنها من جحيم، وفي غزل الشاعر كبرياء رجولة وشهامة نفس وأنفة لا ترضى التهتك والفحش، إنه غزل إنساني على الرغم من تصريحه بذكر النهود والصدور والقبلات، ولا يمكن للشاعر أن يسف بالهوى إلى دركات الغريزة، وفي ديوانه قصيدة تجري مجرى القصة الشعرية عن فتى عب من اللذة المحرمة وأكل من الشجرة الملعونة في أحضان ساقطة حتى أسلمته الفاحشة إلى الداء العياء وأسلمه هذا إلى ظلمات القبر.
ولم يكن الأخطل الصغير في غزله مثل جميل بن معمر أو قيس بن الملوح يكتفي بامرأة واحدة تختصر في وجدانه مملكة النساء يبثها هيامه ويشكوها سهاده ويستعطفها وصالا ويستجديها نظرة حانية، بل كان فراشة حوامة تطير من روض إلى روض وتحط على زهرة وعينها على زهرة أخرى، مادامت الغاية الاستمتاع بفتنة القد وسحر الخد وسعار القبلة المجنونة، وتتولى الخمرة مباركة الوصال ومضاعفة النشوة :
فتن الجمال وثورة الأقداح ** صبغت أساطير الهوى بجراحي
ولد الهوى والخمر ليلة مولدي ** وسيحملان معي على ألواحي
ياذابح العنقود خضب كفه ** بدمائه بوركت من سفاح
أنا لست أرضى للندامى أن أرى ** كسل الهوى وتثاؤب الأقداح
وقارئ شعره لا تفوته ميزة تميز شعره وربما حياته، وما كان الشعر إلا مسفرا عنها وتلك هي أنة التحسر وهي حاضرة في جميع مجالس أنسه جنبا إلى جنب مع الفرح والانتشاء فمهما سعى الشاعر إلى الصفاء وأخلص في طلب السرور، فالزمن سيذرو ذلك حطاما، ولن يجد الشاعر في يده غير الخواء ورماد الذكرى، وصاحب الجلالة الزمن سيقهر الشاعر بأن يعطب خلاياه ويثقل خطاه، ويتكفل المشيب ببقية الديكور الموحي بالعجز والضعف وما أحسن بلاغة الشاعر في الترميز له بالثلوج في قوله :
إلفان في صيف الهوى وخريفه ** عزا على غير الزمان الماحي
دعني وما زرع الزمان بمفرقي ** ما كنت أدفن في الثلوج صداحي
من كان من دنياه ينفض راحه ** فأنا على دنياي أقبض راحـي
إني أفـدي كل شمس أصيلة ** حذر المغيب بألف شمس صباح
وقد كانت حسرة الزوال قاسما مشتركا بين كثير من الشعراء من طراز الأخطل الصغير ألم يقل امرؤ القيس :
كأني لم أركب جوادا للذة ** ولم أتبطن كاعبا ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي مرة ** ولم أقل لخيلي كري كرة بعد إجفال
وبعده الشاعر الفارسي عمر الخيام :
فجدد مع الكـــأس عهـد غـرامك ** وحــل مرارتها بابتسامـــك
وعجل فجوقة هذي الطـيور ** قد لا تطيل الطواف بجامك
فهؤلاء جميعا قد نهبوا اللذات نهبا وسابقوا سيف القضاء وفي النفس خوف من جبروت الزمن وتسليم فطري بانتصاره .
وقد جر صخب الحياة ونعيم الأنس وفتنة الجمال شاعرنا إلى النفور من النوم، فعشاق الأنس يمقتونه لولا أنه ضرورة بيولوجية تجدد العافية، ألم يقل الخيام:
فما أطال النوم عمرا ولا ** قصر في الأعمار طول السهر
بلى فلا مناص من النفور من النوم لأنه يذكر بالهجوع الأبدي، ومحاكاة لعالم الموتى والشاعر يريد صخب الأنس وضجيج الحياة يقول الأخطل الصغير :
يا صارف الكأس عنا لا تضن بها ** ويا أخا الوتر المكسال لاتنمِ
وأما الملكة اللغوية وسلاسة التعبير وعذوبة الجرس وخصوبة الخيال فهي من خصائص شعر الأخطل الصغير لا تعاني لغته ضعفا أو قلقا في التعبير، فقد كان الشعر ينبجس من نفسه بتلقائية كما ينبجس الماء من المنبع، وعلى الرغم من أن الشاعر مارس شعر التفعيلة ركوبا لموجة التجديد كما ركبها شعراء العراق الكبار ولفيف من شعراء مصر ولبنان إلا أن الأخطل الصغير ظل في شعره الكلاسيكي الأنضج والأكثر إغراء، وأما شعر التفعيلة الذي مارسه فليس بذي بال بالقياس إلى شعره العمودي ، تماما كما كانت قصائد صلاح عبدالصبور العمودية لا أهمية لها قياسا إلى شعره كما قرأناه في الظل والصليب وغيره. فالأخطل الصغير مدين للبنان بالسحر الذي لف فيه شاعرنا مذ كان صبيا ويافعا وكهلا ثم هرما والشعر الحديث مدين لشاعرنا بعبقريته الشعرية التي أبدعت رؤى شعرية جميلة ولغة سلسة طيعة وصورا مبتكرة، تحاشت المديح الزائف، والتملق الكاذب والطابع النظمي الساذج والتقليد الأعمى، ولئن عانى الشاعر من فجيعة الزمن وحسرة الزوال؛ زوال ساعات الصفاء ولحظات الأنس، ثم زوال الشاعر نفسه فعزاؤه وعزاؤنا تلك الروح الشعرية الباقية والرؤى الخالدة والقصائد التي لا ينالها الزمن بسيفه المسلط على رقابنا جميعا .