إسرائيل دولة حرب، العنف لغتها

الدولة التي بشر بها ياسر عرفات من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة صارت عبارة عن غرفة إنعاش في مستشفى أقامته إسرائيل بديلا للحلم الفلسطيني.

أمام اعتراف منظمة التحرير الفلسطينية بحق إسرائيل في الوجود ما الذي فعلته إسرائيل؟ صارت تعمل على محو الحق الفلسطيني الذي اعترف به العالم بعد كفاح مضن، استمر عقودا. لقد استغلت إسرائيل الاتفاقات التي وقعها الفلسطينيون وبالأخص على مستوى تخليهم عن الكفاح المسلح لتزيد من رقعة الأرض التي تحتلها وتبني مستوطنات جديدة ولم تقدم واقعيا أي دليل على أنها ترغب في ترسيخ سلام عادل، بل كانت على العكس من ذلك دولة حرب، تغير قواتها على الجزء الصغير من فلسطين الذي آمل الفلسطينيون في أن يقيموا دولتهم المستقلة عليه.

منذ أن حاصرت القوات الإسرائيلية مقر الرئيس ياسر عرفات عام 2002 بدا واضحا أن إسرائيل تصر على الاستمرار في عدم احترام القوانين الدولية ولم تكن على استعداد لتقديم أي نوع مما تسميه تنازلات في مشروعها التوسعي الاستيطاني للفلسطينيين الذين كان عليهم أن يدركوا منذ تلك اللحظة أن كل ما وقعوه مع إسرائيل وبإشراف دولي لم يكن سوى خديعة وأنهم لن يحصدوا من التنازلات التي قدموها سوى الريح وأن العالم الذي كان طرفا في كل الاتفاقات التي وقعوها لن يقف معهم في الدفاع عن حقوقهم، بل سيفعل العكس من ذلك تماما وسيخذلهم.

لقد تُرك الرئيس عرفات يومها وحيدا إلى أن مات. وبذلك تكون إسرائيل هي التي دفعت الفلسطينيين إلى اليأس من إمكانية خروجهم بشيء ذي قيمة، يستحق الذكر من الاستمرار في مفاوضات بدت وكأنها نوع من حوار الطرشان. ولهذا انتهت المفاوضات إلى الفشل الذي تواطأ الطرفان الإسرائيلي والفلسطيني على عدم الاعلان عنه تحاشيا لاندلاع انتفاضة شعبية أخرى. واقعيا كانت الأراضي التي هي تحت إشراف وإدارة السلطة الفلسطينية محتلة بطريقة أو بأخرى، حيث لم تكف القوات الإسرائيلية عن اجتياحها بذريعة أو بأخرى ولم تكن السلطة التي تزعمها منذ موت عرفات مهندس اتفاق أوسلو محمود عباس قادرة على التصدي لها ومنعها من القيام بذلك.

كل ذلك أدى إلى أن تنهار ثقة الفلسطينيين بالسلطة التي أوكلوا لها الدفاع عن قضيتهم وصولا إلى قيام دولتهم. لقد تبين لهم أن السلطة التي أفقدتها إسرائيل القدرة على الحركة خارج الإشراف الإداري هي مجرد غطاء لاحتلال من نوع جديد، قد يكون أشد خطرا من الاحتلال المعلن، ذلك لأنه ينطوي على اعتراف مبطن بحق الإسرائيليين في التمدد وإنشاء مستوطنات جديدة على الأراضي التي يُفترض أنها ستكون جزءا من دولة فلسطين المستقبلية. بل أن الفلسطينيين صاروا على يقين من أن تلك الدولة المنشودة لن ترى النور ما دامت السلطة قائمة. كل هذا صنعته إسرائيل، ساعدتها الطبقة السياسية الحاكمة في إطار السلطة. وبعد أن مرت ثلاثون سنة على اتفاق أوسلو انخفضت مستويات الأمل لدى فلسطينيي الداخل والخارج على حد سواء. فالدولة التي بشر بها ياسر عرفات من على منصة الجمعية العامة للأمم المتحدة صارت عبارة عن غرفة إنعاش في مستشفى أقامته إسرائيل بديلا للحلم الفلسطيني.

هل ستأسف إسرائيل لأنها دفعت الفلسطينيين إلى اللجوء مرة أخرى إلى خيار العنف؟ سأقول ثانية إن إسرائيل دولة حرب. أنشأتها العصابات الصهيونية لتكون كذلك وهي غير مستعدة للتعامل مع مَن أغتصبت أرضه وشردته ودمرت مستقبله على أساس غصن الزيتون الذي رفعه عرفات في الأمم المتحدة. ما صار الفلسطينيون على يقين منه أن إسرائيل لا ترى في السلام قاعدة للتفاهم معهم وهو ما دفع الكثيرين منهم يأسا وليس إيمانا إلى أن يقفوا وراء حركة حماس حين اقتطعت غزة وحولتها إلى اقطاعية أو مشروع إمارة إسلامية، ليست فلسطين سوى واجهة زائفة له. ولكنها العودة إلى العنف الذي عملت إسرائيل ترسيخه في علاقتها بالشعب الفلسطيني الذي تنازلت منظمة التحرير عن ثوابت كثيرة باسمه من غير أن يقبض شيئا على أرض الواقع. ذلك ما حول غزة إلى مشروع مأساة مستمرة. هناك تستمر الحرب التي تريدها إسرائيل قاعدة لعلاقتها بالفلسطينيين.
وكما أرى فإن الكارثة التي ضربت غزة ولا تزال فصولها مستمرة، قتلا وتشريدا وتدميرا وخرابا لن تشكل بداية لانفتاح العالم على البحث عن أسباب إستمرار العنف ومن ثم معالجته وصولا إلى حل للمسألة الفلسطينية بل هي مجرد حلقة من حلقات مسلسل طويل، تراه إسرائيل منسجما مع وجودها، دولة حرب لا تنفع معها محاولات التطبيع العربي.