إشكاليات عالقة: ضرورات إنعاش الحل السياسي في سوريا

كل المساعي الإقليمية لإحداث اختراق في جمود الحالة السورية تعطلت وحالت دون إنجاز توافقات بين الفاعلين الدوليين لحل الإشكاليات العالقة.

إشكاليات معقدة تُظلل المشهد السوري. هي إشكاليات أدخلت الأزمة السورية في حالة من الجمود السياسي، مع الإبقاء على المشاهد العسكرية حاضرة لكن دون تأثير أو فاعليه، جراء تداخل مناطق النفوذ والمصالح في الجغرافية السورية. فمنذ العام 2020، لم يُسجل في الملف السوري أي عنوان سياسي أو عسكري بارز، يكون سبباً في إنعاش فُرص الحل السياسي، وإمداد الملف السوري بما يلزم للتوصل إلى حل سياسي يُنهي سنوات الصراع الأزمة، خاصة أن الثُلاثي الضامن لمسار أستانا، تمكنوا من إعادة تدوير الزوايا بما يتسق مع مصالحهم ومناطق نفوذهم، حيث عملت دمشق وداعميها على استكمال الحسم العسكري عبر السيطرة على شمال غربي سوريا. بالمقابل تمسكت تركيا ومن خلفها الدول الداعمة بفرض وقف لإطلاق النار بين دمشق ومعارضيها، وفرضه أمراً واقعاً من خلال الانتشار العسكري المباشر للقوات التركية على خطوط التماس.

ورغم محاولات روسيا وإيران وتركيا تحريك العملية السياسية في سوريا، إلا أن جولات أستانا وما تخللها من مسارات سياسية بديلة، لم تُفلح جميعها في تحقيق أي خرق سياسي، وفي المقابل فقد بقيت جولات اللجنة الدستورية التي انعقدت حتى عام 2022 دون نتائج تذكر، لتقتصر جولات الدستورية وغيرها من المشاهد السياسية الخاصة بالأزمة السورية، على جولات العصف الذهني بالخطوط العريضة، ليلتحق بعدها الملف السياسي بالعسكري، ويدخل هو الآخر بمرحلة جمود ونفق مظلم، وسط انشغال الدول الفاعلة والمؤثرة في سوريا بالأزمات التي تتالت على الساحة الدولية.

أثرت الأزمات الإقليمية والدولية على الجُزئيات الحاكمة للملف السوري، إذ قبل أشهر من العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا، دار حديث مُعمق في الأوساط الأميركية الروسية عن انطلاق حوار استراتيجي بين البلدين، من أجل نقاش الملفات العالقة بين الجانبين. لكن الحرب الروسية الأوكرانية، تبعها رد فعل اميركي شديد، حيث انخرطت واشنطن والعديد من الدول الأوروبية في دعم أوكرانيا عسكرياً واستخبارياً وسياسياً، الأمر الذي أدى لتوتر كبير في العلاقة بين موسكو وواشنطن.

تأثر الملف السوري بأثار التوتر الروسي الغربي، إذ أن توقف اجتماعات اللجنة الدستورية، والتي دأب غير بيدروسون على محاولات إنعاشها، علها تُحقق بارقة أمل في مسار الحل السياسي في سوريا، لم تكن إلا ضغطاً روسيا ضد دمشق بغية عدم قبولها لـ جنيف كمكان لانعقاد اللجنة الدستورية، وذلك تحت ذريعة إهانة سويسرا لدبلوماسيين روس، والتأخر في منحهم تأشيرات لحضور جلسات اللجنة الدستورية السورية، وأتبعتها روسيا بتغاضٍ مقصود عن تصاعد النشاط الإيراني في البادية السورية المتاخمة للحدود العراقية وعلى مقربة من قاعدة التنف الأميركية، بالإضافة إلى الجنوب السوري على حدود الجولان المحتل.

لكن تمدد إيران في سوريا أثر أيضاً في مسار التطبيع العربي الخليجي مع دمشق. فالأردن الذي قاد علمية خطوة مقابل خطوة، حاول تغيير الواقع السوري، خاصة مع الضرر الناجم عن استمرار الأزمة في سوريا، وانعكاسات ذلك على الأردن وأمنه، نظراً لعمليات تهريب السلاح والمخدرات، حيث تتهم عمان فصائل موالية لإيران بعمليات التهريب، بغية إيجاد نفوذ إيراني داخل الأراضي الأردنية، وفي جانب آخر فإن نفوذ إيران في الجغرافية السورية، كان سبباً في تغيير الديناميات الأميركية المتعلقة بالملف السوري، الأمر الذي دفع بالإدارة الأميركية إلى إعادة تمسكها بالجغرافية السورية، لتبدو الولايات المتحدة من خلال ذلك، غير راغبة بالسماح لإيران بملء الفراغ الأميركي في حال الانسحاب من سوريا.

تركيا بدورها حرصت على تعزيز وجودها في الجغرافية السورية عبر وسائل متعددة، مستفيدة من تداخل المصالح بينها وبين حلفاء دمشق. فتركيا التي رسخت وجودها في سوريا، معتمدة على مسار أستانا، الذي منحها امتيازات وأوراق قوة في سوريا، وباتت بموجب ذلك صاحبة الذراع الاقوى في جزء من الجغرافية السورية، ورغم محاولات إعادة العلاقات السورية التركية، إلا أن رفض تركيا لمطالب دمشق، جاء ضمن معطى محدد يرتكز على أوراق القوة بيد تركيا، وتراخي حلفاء دمشق من الضغط على تركيا، وهذا ما يُترجم عميقاً حالة الاستثمار في المصالح المشتركة بين روسيا وإيران وتركيا في سوريا وجغرافيتها المحكومة بمناطق النفوذ.

فرضت واشنطن مزيداً من العزلة على دمشق، وبصرف النظر عن الأنباء التي ترددت حيال تعطيل إدارة بايدن لقانون منع إعادة التطبيع مع دمشق، إلا أن الإدارة الأميركية وقعت على قانون "كبتاغون 2"، والذي بموجبه يتم تصنيف دمشق على أنها متورطة في تجارة المخدرات، ويصنفها القانون ضمن التهديدات الإقليمية والدولية، الأمر الذي سيفتح المجال لاحقاً لتدخلات أميركية أوسع في سوريا تخدم سياساتها العامة الرامية لوضع مزيد من الضغوط على النفوذ الإيراني، وهذا يقلص قدرة الدول الإقليمية على التحرك في الملف السوري، لأنه قد يجعلها عرضة للعقوبات الأميركية في حال انخرطت بعلاقات مع دمشق.

المعطيات السابقة أدت بشكل مباشر إلى جمود الملف السوري، وإبقاءه في حالة المراوحة، إذ أن كل المساعي الإقليمية لإحداث اختراق في جمود الحالة السورية تعطلت وحالت دون إنجاز توافقات بين الفاعلين الدوليين لحل الإشكاليات العالقة. لذلك فإن إنهاء حالة الجمود في سوريا، وتحريك قطار الحل، بات مرتبطاً إلى درجة كبيرة بمستقبل الصراع الغربي الروسي في أوكرانيا، وما إذا كانت الأطراف ستعود لطاولة المفاوضات لعقد توافقات حول جميع الملفات الخلافية، بالإضافة إلى التوافقات الثنائية بين الفاعلين الدوليين على الملفات الخلافية، مثل مستقبل العلاقة الأميركية الإيرانية، ومدى إمكانية العودة إلى الاتفاق النووي من عدمه، وبالتالي سيتضح التعاطي الأميركي مع طهران من حيث تقبل نفوذها الإقليمي أو تقليصه، وأيضاً مصير المحادثات الأميركية التركية ونتائجها المتعلقة بمستقبل شمال شرقي سوريا.