لكل حرب سُردها: حرب غزة والنظام الدولي

السردية الإسرائيلية تم تبنيها من قبل واشنطن والغرب عموماً، الأمر الذي جعل من وقف إطلاق النار أمراً بعيد المنال.

لم تكن حرب غزة وما أفرزته من معطيات، مساحة لنقاشات متعددة تمحورت حول الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وضرورات البحث عن تسوية مستدامة لهذا الصراع فحسب، بل ثمة سجالات أعمق حددتها جُملة من التساؤلات المُتعلقة بطبيعة النظام الدولي وفاعليه الرئيسيين، وهل حقاً ثمة أقطاب متعددة تحكم هذا النظام؟ أم أن هناك قُطباً واحداً يُمسك بعناوين النظام الدولي؟ وضمن ذلك فإن جُل التساؤلات وسجالاتها لم تعد في الإطار التنظيري، خاصة أن الرغبات المُعلنة والصريحة للكثير من الدول الإقليمية والدولية، ترفض استمرار الهيمنة الأميركية واستئثارها بخيوط الحلول للأزمات، والتصرف بأحادية تؤطرها التحالفات وفرض العقوبات، والتدخل في الشؤون الداخلية للدول. لكن ما سبق من قوائم الرفض والتي تُقدمها روسيا والصين وإيران، لم تجتهد تلك الدول في ابتكار حلول جديدة، أو فرض رؤى إستراتيجية تكون سبباً في مواجهة التفرد الأميركي، لتبقى حالة السجالات وعناوين الرفض للسياسات الأميركية في الإطار الإعلامي، الأمر الذي انعكس مباشرةً على الملف الفلسطيني وغيره من الملفات الإقليمية، وبقاء مسببات الأزمات والحروب دون حل.

ورغم إقرار روسيا والصين وإيران بأن الهيمنة الأميركية هي إحدى مسببات الحرب في غزة وإطالة أمدها، إلا أنه إقرار ينقصه التحرك بشتى الوسائل لإيقاف الحرب في غزة أولاً، ورفع المظالم التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني ثانياً. هذه المظالم كان لابد من التعامل معها وايقافها، وفقاً لتسوية تضمن إقامة دولة فلسطينية، وضمان حقوق الشعب الفلسطيني، لكن الهيمنة الأميركية حيّدت الأدوار الأُخرى في سياق التسويات الكُبرى، حتى بدأت مكونات الدولة الفلسطينية تتأكل بفعل استمرار السياسات الإسرائيلية المدعومة من نظام الهيمنة العالمي، والاستمرار بالمزيد من عمليات الاستيطان وتشريعها، وعليه فإن تراجع الزخم الدولي وإكتفاء موسكو وبكين والدول التي ترفع شعار تحرير فلسطين، بإصدار بيانات الإستنكار، والتأكيد على ضرورة وضع حد لاستمرار الهيمنة الأميركية بوصفها سبباً للأزمات والحروب. كل ذلك أعطى السردية الإسرائيلية في فلسطين، شرعيةً وقوة وتكليفاً ضمنياً باستمرار السياسات في شكلها الحالي.

بهذا المعنى فإنه لم يعد للشعب الفلسطيني إلا المقاومة لرد الظلم والإعتداءات الإسرائيلية المتكررة، وفي هذا الأمر ثمة إجماع روسي صيني وإيراني حيال مقاومة الشعب الفلسطيني للممارسات الإسرائيلية، وبصرف النظر عن توصيفات تلك المقاومة بالنسبة لكل طرف، لكن ثمة تفسيرات متناقضة حيال مقاومة الشعب الفلسطيني. وعلى سبيل المثال، فإن فرنشيسكا ألبانيز مقررة الأمم المتحدة المستقلة المعنية بحقوق الإنسان في الأراضي الفلسطينية وصفت الاحتلال الإسرائيلي بأنه "أداة للاستعمار الغربي والوحشية والاعتقال والاحتجاز التعسفي وتنفيذ إعدامات بإجراءات موجزة ضد الشعب الفلسطيني". لتعود ألبانيز إلى تبني الرواية الإسرائيلية بأن ما يجري في غزة، هو الرد على عملية السابع من تشرين الأول العام الماضي. الرواية الإسرائيلية ذاتها تلقى قبولاً ضمنياً لدى روسيا والصين وعموم المجتمع الدولي، أما إيران فلديها تصوراتها الخاصة حيال ذلك، ضمن محددات سياساتها الإقليمية، ورفع شعار تحرير فلسطين، كوسيلة للإستثمار السياسي وتحصيل المكتسبات وتعزيز دورها في المنطقة.

السردية الإسرائيلية تم تبنيها من قبل واشنطن والغرب عموماً، الأمر الذي جعل من وقف إطلاق النار أمراً بعيد المنال، كما أن مشاريع قرارات مجلس الأمن تهاوت أمام المنطق الأميركي والغربي للأحداث في غزة، الأمر الذي يؤكد بأن النظام العالمي تحكمه أطروحات محددة وفق تراتبية واضحة. هذه التراتبية التي تستحوذ الولايات المتحدة على جُل عناوينها، أثارت حفيظة روسيا، لتأتي ترجمة الموقف الروسي عبر المندوب الروسي في الأمم المتحدة فاسيلي نيبينزيا، الذي ذهب إلى أنه "خلال هذه الأسابيع، أصبحت حقيقة واحدة غير لائقة للغاية واضحة. بالنسبة للغرب، الفلسطينيون هم أناس من الدرجة الثانية. وهو ليس معنياً في الدفاع عن مصالحهم. هذا هو السبب الرئيسي للمشاكل التي واجهها المجلس عند اتخاذ القرارات". ومن ثم فإنه من غير المستغرب أن يقول مارتن غريفيث وكيل الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية بأن الناس في غزة قد فقدوا الثقة في الإنسانية. ومرة أخرى وصفت فرنشيسكا ألبانيز استجابة المجتمع الدولي بغير المسؤولة، كما اعتبرت أن الدول الغربية استمرت في التصرف بشكل منحاز.

الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، كان رفضه واضحاً لحالة الإنحياز والإزدواجية حيال المقاربات تُجاه غزة والعدوان الإسرائيلي، ووجد بوتين في السجالات التي أطرت الأمم المتحدة حيال غزة، فرصة للتصويب على تلك السياسات، عندما خاطب من وصفهم بالمصدومين مما تقوم به بلاده في أوكرانيا، طارحاً عليهم تساؤلات تتعلق بقصف المدنيين في غزة، واضطرار الأطباء لإجراء عمليات جراحية دون تخدير، ووصف الأمين العام للأمم المتحدة غزة بتحولها إلى مقبرة للأطفال، وبذات الإطار فقد تساءل بوتين عمّا إذا كان ذلك يصدمهم أيضاً. وقد كان المندوب الروسي في الأمم المتحدة واضحاً في وصف تعامل الغرب مع الشعب الفلسطيني، خاصة عند المقارنة بالسلوك الغربي حيال أوكرانيا معتبراً أن الأمر يتعلق بمعايير مزدوجة صارخة، ليواصل طرح الأسئلة على الوفود الغربية: أين هي مناشدتكم للمحكمة الجنائية الدولية إصدار أوامر اعتقال؟ أين جهودكم لإنشاء كافة أنواع لجان التحقيق والمحاكم؟

في مقابل ذلك فإن السردية الأميركية كانت واضحة تماماً لجهة التأكيد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، وبذات التوقيت فقد أحبطت الولايات المتحدة محاولات وقف إطلاق النار حتى تنفيذ الأهداف الإسرائيلية. وهذا ما يؤكد بأن لكل حرب وما تحتويه من سجالات سُردها الخاصة، فالسرديات الأميركية والاسرائيلية ومثلها الروسية، تؤكد بما لا يدع مجالاً للشك، بأن ما يحدث في الأمم المتحدة والمجتمع الدولي ككل، مرتبط بمسائل معقدة تحكمها سجالات عميقة في النظام الدولي، فالعدالة ومعايير تطبيقها في النظام العالمي، تحكمها إشكالية التطبيق الواقعي والحقيقي، وكذلك دور المنظمات الدولية وعلى رأسها الأمم المتحدة في الشؤون الدولية، فالعدالة ضمن ما سبق تتعلق بما يراه كل طرف بأنه عدالة، وفيما يتعلق بازدواجية المعايير ثمة تساؤلات توجه لمن ينتقدون السلوك الأميركي والغربي حيال ما يحدث في غزة، ومقارنته بما يحدث في أوكرانيا.

الحدث الفلسطيني بات أشبه بالمباراة الكبرى التي يسعى من خلالها اللاعبون الاقليميون والدوليون لتسجيل أكبر عدد من الأهداف في المرمى الفلسطيني، وهذا يرتبط بأحقية كل طرف بإثبات وجهة نظره وتطبيق إستراتيجياته بما يتسق مع أهدافه ومصالحه، من الولايات المتحدة إلى إسرائيل وروسيا والصين وإيران، حيث لكل فريق لاعبيه، ولكل فريق سياسته الخاصة في استثمار الحدث الفلسطيني، لكن في العمق، فإن القضية الفلسطينية لم تكن يوماً بعيدة عن سجالات النظام الدولي، وضمن هذا الواقع فإن هذا النظام وتلك القوى التي تدور في فلكه، لن تُنصف الفلسطينيين، ليبقى التساؤل الأبرز، هل سيقع على الفلسطينيين المزيد من الظلم الذي اعتادوا عليه؟، خاصة أن الولايات المتحدة لا تزال بمقدورها أن توقف كل القرارات الأممية التي يُمكن أن تُنصف الشعب الفلسطيني، في مقابل عجز روسي صيني وإيراني حيال المقدرات الأميركية.