إشكالية الذاكرة والنسيان في النص الروائي العربي – رواية طشاري أنموذجا

رواية العراقية المغتربة إنعام كجه جي تشكّل ظاهرة لبروز ثنائية الذاكرة والنسيان عبر توظيف فنّي عال لا يقطع سيرورة السرد بمقدار ما يعمل على شدّ أواصره.
إنعام كجه جي جمعت قصاصات بين ذكريات، وخواطر، وأفكار، ولقاءات
رواية طشّاري تنهل من رُكام عمل إنعام الصحفي
طغيان الاستذكار في المتن السردي يعود إلى الحالة النفسية لبطلة الرواية المغتربة

من أبرز الإشكاليات التي يقف عندها الروائيون في مدوناتهم، وهي إشكالية التذكر والنسيان، فالنصوص الروائية بصفة عامة تحفل بهذه الثنائية التي تعمل على إدامة فعل السرد، من خلال استعراض أحداث يفترض الراوي (المؤلّف) وقوعها من قبل، ومن ثم يسردها على لسان شخصيات رواياته، على اختلاف في كمّية ذلك الاستذكار بين شخصيةٍ وأخرى، بحسب أهمية ظهور تلك الشخصيات على مسرح الرواية، وبحسب ريكور تُشكّل الذاكرة والنسيان مستويين متوسّطين بين الزمان وبين السرد.
 وإذا كان لا بدّ للباحث أنْ يختبر فاعلية هذه الثنائية على متنٍ روائيٍّ ما، فلا يجد نصًّا روائيًّا مُتخمًا بهذه الثنائية أكثر من رواية طشّاري للروائية العراقية المغتربة إنعام كجه جي، التي شكّلت روايتها ظاهرة لبروز هذه الثنائية، عبر توظيفٍ فنّيٍ عالٍ، لا يقطع سيرورة السرد، بمقدار ما يعمل على شدّ أواصره بعضًا ببعض، على الرغم من عنوانها الذي يشي بالتشظّي، وهذا ما سنقوم به عبر المحاور الآتية:
ولما كانت الذاكرة تقدّم لنا بوصفها أشياء انتمت إلى الماضي، وهي مصدرٌ لمعرفة تلك الأشياء كما يرى التجريبيون، فكم إذن يُمكن أنْ نثق بما تنقله الذاكرة إلينا صحيحًا مع ما كان من حدثٍ أو لحظةٍ ارتبطت بالماضي؟ وهو سؤال يجعل الاهتمام يتجه إلى صلاحية الذاكرة بوصفها مصدرًا للمعرفة ما دام إمكان النسيان الذي هو حالة طبيعية موجودًا، وهو نقيضها، فنحن كما يقول ريكور، لا نملك موردًا آخر فيما يخصّ الإحالة إلى الماضي سوى الذاكرة عينها، وفي هذه الحالة، ثمّة إمكان لإساءة استعمال الذاكرة، فيقع الخلط والزيادة أو النقصان قصورًا أو تعمّدًا من صاحب الذاكرة، وفي هذه الحال يُساء استعمالها بوصفها مصدرًا للمعرفة، وتغدو صحة ما تنقل على المحك.
ومن خلال ما تقدّم يقترن مفهوم النسيان بما يُضادّ التذكّر، فحين نقف على حدود الذاكرة، إنما نشاطئ مفهوم النسيان، وهو مفهومٌ إشكاليٌّ أيضًا يتعارض مع الذاكرة، هذا لأن مساريهما يتقاطعان في موقعٍ ليس بموقع، ويدلُّ عليه بشكلٍ أفضل التعبير الأفق، أفق ذاكرة ساكنة بل أفق نسيان سعيد، بمعنىً ما، فإن إشكالية النسيان هي الأوسع إذ إن سكينة الذاكرة التي تشكّل الغفران يبدو وكأنها تشكّل المرحلة الأخيرة من مخاض للنسيان.
وتبرز أسباب كثيرة لاستدعاء أحد هذين الأمرين: (الذاكرة/ النسيان) بالنسبة للفرد أو الجماعة، فقد تعمد جماعةٌ ما إلى احتكار هذه الذاكرة ووضعها تحت نفوذ ملكيتها الخاصة. يحدث هذا حين تتألف أمة ما من مجموعة من الجماعات.
 ويمكن للشخص أيضًا أنْ يتصرّف بذاكرته بوصفها طابعًا يرسم حدود هويّته الثقافية، فيمارس ما ينبغي لذاكرته أنْ تستدعيه بما ينسجم ومتطلبات مستواه الثقافي، فكلُّ فردٍ في المجتمع هو الشاهد الوحيد على وجوده الخاص، حيث إنه مسؤول عن بناء صورةٍ لهذا الوجود ناسخًا بعض الأحداث ومُبقيًا على البعض الآخر، أو مشوِّهًا أو مكيّفًا للمتبقي منها، ويمكن له أنْ يستعين على ذلك بالوثائق "التي هي الآثار المادية" ولن يساعده أحد في عمله، فهو وحيدٌ فيه.
 حيث يمكن للنسيان الإرادي أنْ يولّد الندم، كما يمكن لدحر بعض الذكريات أنْ يؤدي إلى العصاب ، فمصلحة الفرد هي التي تتحكم في ذلك التذكر أو التناسي، لأجل العيش بطريقة أفضل، وبمقتضى ذلك لا يمكن لأحد أنْ يفرض الصورة التي يملكها الشخص عن ماضيه لأن جوهرها يأتي من وجودها وليس من خلال الحقيقة التي تدفعنا إليها. 
بعد هذا العرض التلفيقي من مرجعيات فكرية متنوّعة بين فلسفية وفكرية ودينيةٍ متمثّلة بالموروث التفسيري للنص القرآني، سنتوقّف عند رواية طشّاري للروائية العراقية المغتربة إنعام كجه جي المقيمة الآن في فرنسا، وأنا أشكُّ في مقصدية النوايا التي دفعتها لكتابة هذه الرواية، لأنّها ممّن دخل عالم الرواية بعد الخمسين، وهي ممّن عُرفت بمزاولتها العمل الصحفي طيلة السنوات الماضية.
 وفي حديثٍ لها على قناة الفرنسية الناطقة بالعربية، أشارت إلى أنها جمعت قصاصاتٍ متفرّقة لها من هنا وهناك، بين ذكريات، وخواطر، وأفكار، ولقاءات، فكانت الرواية طشّاري توفيقًا لهذا الرُكام المتناثر طيلة عملها الصحفي، وفعلاً كان هذا المتناثر من المعلومات، تجميعًا إبداعيًّا في نسقٍ أريدَ له أنْ يترجم معاناة الشتات العراقي في الغربة، فكانت الرواية بذلك دالّةً بشكلها (تجميعًا وتنسيقًا) ومضمونًا (دلالة العنوان ومتنها) على ذلك الهدف المقصود لدى الكاتبة.
إنَّ استعادة الذكريات واسترجاعها، يمثّل ظاهرة طبيعية عند الإنسان، إذا ما علمنا حتى الحيوانات والنباتات تتمتع بذاكرة، ولكن في مثل رواية (طشّاري) تكون الذاكرة تمثّل تقانةً ظاهرة على مجمل تقانات السرد في هذه الرواية.
 وعليه تكون الذاكرة ناظمًا رئيسًا لمفاصل الرواية المتشكّلة من شتات الذكريات التي مرّت ببطلة الرواية (وردية) تلك الطبيبة المسيحية التي غادرت العراق بعد تصاعد أحداث العنف وتهجير المسيحين من العراق بعد سقوط النظام البعثي.
 وهنا تستعرض البطلة أحداثها، وهي على كرسيٍّ دوار في قصر التشريفات لمقابلة الرئيس الفرنسي.
إنّ تشخيص الأسباب التي تقف على طغيان ظاهرة الاستذكار في المتن السردي طشّاري بالإمكان إرجاعه إلى الحالة النفسية التي تمرُّ بها البطلة، فهي بوصفها مغتربة تشهد كلّ يوم حالات من النزوح الجماعي في دول المهجر، وتستمع بوصفها صحفية إلى آلاف القصص التي يمرُّ بها عراقيو المهجر، كيف كانوا، وكيف صاروا من وضعٍ مأساويٍ نتيجة تصاعد أحداث العنف، فكان لها أنْ تُرمّم الواقع عبر استدعاء الذكريات المضادّة للواقع، وهذا ما يُعرف بأدبيات ما بعد الكولونيالية، بالمقاومة بالكتابة، أو كما هو اصطلحت عليه بيل اشكروفت وزميلاتها بـ(الرد بالكتابة) تلك الكتابة التي يوظّفها أبناء الشعوب المقهورة، لأجل محاربة الواقع المرير الذي تعيشه بلادهم نتيجة السياسات الغربية التي من مصلحتها إبقاء دولٍ تراوح في مكانها، بل تتراجع عمّا كانت عليه من حالٍ يُعدّ أفضل بكثيرٍ ممّا هي عليه الآن، في حين تتقدّم هذه الدول (الكبرى) التي ابتدأت مرحلة من الامبريالية المبطّنة من خلال ارتقاء مستوى سياساتها لما هو أخفى في التضييق على دول العالم الثالث تارةً، وإظهارَها أنّها الملجأ الوحيد لشعوبهم حين تضيق بلدانهم بهم، فتعمل على تأسيس قناعاتٍ في أذهان تلك الجماعات المهجّرة من أوطانِها بما تقدّمه لهم من تسهيلات اللجوء وغير ذلك من خدمات، بأنها أفضل واقعٍ ممّا كانوا عليه، وهي قناعات تُكلّف تلك الجماعات الانسلاخ من كل ما يمتّ بصلة بأوطانهم فكريًّا وعقديًّا واجتماعيًّا.. الخ.
 وبهذا يقع اللاجئ رهينة استعباده لا شعوريًّا لأنظمةٍ أخرى ليس له سوى الانقياد خلف قراراتها مهما كانت.
إن استشعار البطلة (ورديّة) بالغُربة في بلاد الغرب، لا يحتاج إلى دليل، ففي استدعائها كل تلك الذكريات التي يغلب عليها طابع الحنين إلى ما مضى من عمرٍ قضته وهي تُعالج النساء في الديوانية ومن ثم في بغداد، فضلاً عن المواقف الأخرى التي تحضرها وهي في وسط أسرتها المسيحية، وما كان لأخيها أو لأختها من أحداثٍ جرت معهم، كل تلك الأحداث التي استعادت شريطها لتضعه بين يدي ابنتها أو زوجة ابنها أو أو.. كانت بمثابة جهاز الاستنشاق الذي يستعمله المصابون بالربو، فيرتاحون بعد الاستغاثة به، وإلا كان الواقع الذي ينتصب أمام عينيها مثلما وصفته: كأن جزارًا تناول ساطوره وحكم على أشلائها أنْ تتفرّق في كل تلك الأماكن. رمى الكبد إلى الشمال الأميركي وطوّح بالرئتين صوب الكاريبي وترك الشرايين طافية فوق مياه الخليج، أما القلب، فقد أخذ الجزّار سكّينه الرفيعة الحادّة، تلك المخصّصة للعمليات الدقيقة، وحزّ بها القلب رافعًا إياه، باحتراس، من متّكئه بين دجلة والفرات ودحرجه تحت برج إيفل وهو يقهقه زهوًا بما اقترفت يداه.
 إنّ فعل التقطيع الذي يقوم به الجزّار، يشير إلى قسوة الحالة النفسية التي تمرُّ بها (وردية) تلك التي قدّمت من الخدمات العلاجية بوصفها طبيبة نسائية تُنقذ أرواح النساء الحومل من تحت يديها وبفضل مبضعها الرحيم كان لأطفال أنْ يعيشوا حيواتهم سالمين، فتجعلها الآن تقع في مفارقة أنّها الآن تحت قسوة ساطور الغربة المرير، من غير مبالاةٍ بما يُعانيه أولئك الواقعين تحت رحمة سطوته، فأسرتها الآن مشظّاة على خارطة العالم الغربي، وهذا التصويرُ لا يُخفي تحيّزاته الهوياتية لنسق الانتماء إلى أصلٍ يلمّ شتات المجتمع العراقي بما فيه من تعدّديات عرقية ومذهبية ودينية وفكرية. 
وبهذا تكون عملية الكتابة هنا لا تعني التدوين، وإنما هي شهادة على ذلك الواقع الذي يحمل دلالة الفعل الماضي المستمر، ولذلك فالقاصة عند ممارسة فعل الكتابة مارست محوا للمرتكزات لتبين ما آلت إليه الأمور وعملية الاسترجاع تشير إلى أن الانقلاب على الأنساق غدا فعلا ثابتا ومترسخا. ومحاولة (الشطب) الذي همّت به البطلة، لم يكن إلا لأجل نسيان الفادح من الخسارات التي مُنيت بها فيما مضى من عمرها، ومثل هذا الشطب لم يتحقّق، بل أدّى أثره العكسي، في تهييج نقمتها على الواقع الذي تعيشه، فيعزّز قدرتها على محاربة كل ما يخرج عن سياق التذكّر الإيجابي الذي احتفلت به في غربتها. ويرفع مناسيب صمودها ضدّ التيار الطارئ الذي أودى بها إلى هذا الشتات. وهذا ما يُثبت قدرة الكاتبة بتوظيف الذاكرة في السياق العام الذي يتّجه إليه الفعل الأدبي بالتزامه الخطّ الإنساني المعبّر عن أصالة القيم الإنسانية، واندحار كل ما يشوّه مضامينها الباقية ما بقي الإنسان.