التضليل في غزة: كيف تغذي الحرب نظريات المؤامرة؟

"الطفولة السياسية" صارت نمطا صالحا لتفسير الاحداث وتتعاطى معها مهما كانت جسيمة بوصفها "مباراة كروية" بين فريقين، كل مجموعة تتحيز لطرف وتدافع عنه وتصفق له، وتبحث له عن مبررات، وتشتم الفريق المقابل، وتعاديه وتبغضه.

تعقيبا على المقالات التي كتبتها حول حرب غزة وردتني عدة اسئلة وملاحظات مهمة اثرت تأجيل نقاشها لحين وقف الحرب او عقد هدنة، وعلى الرغم ان هذه الاسئلة لا شأن لها بالافكار الرئيسية للمقالات بشكل مباشر، الا انني اجد من الضرورة ايلاء تلك الاسئلة والملاحظات اهتماما تحليليا نظرا للمساحة التي تحتلها في وسائل التواصل الاجتماعي.

أبرز تلك الاسئلة هي التي تصنف من جملة نظريات المؤامرة، والتشكيك في اهداف الحرب واطرافها، من قبيل: هل ثمة اتفاق بين حماس واسرائيل على احداث طوفان الاقصى؟ وهل تورط قادة حماس في العمل ضد شعبهم؟ وان ما نراه على الشاشة ما هو الا بطولات وهمية لأبطال من ورق، وان الانفاق اكذوبة، وابوعبيدة شخصية من الذكاء الصناعي؟

هل دخل حزب الله في لبنان في صفقات سرية مع الولايات المتحدة منعته من اعلان الحرب الشاملة على الكيان الصهيوني والاكتفاء بالضربات الحدودية المحدودة في شمال اسرائيل؟ او انه آثر سلامة اراضيه ولذلك عمد الى تضييق مساحة مواجهاته العسكرية بالقدر الممكن؟

ومثلها الاسئلة المتعلقة بموقف جمهورية ايران الاسلامية واذ ما كان خطاب الرئيس الايراني، وتصريحات وزير الخارجيّة الايراني، والتي غلب عليها لهجة الحماسة والوعيد للكيان الصهيوني هي مجرد بهرجة اعلامية؟ وان الجمهورية تساوم على ورقة طوفان الاقصى لتحقيق مصالح سياسية واقتصادية خفية بعيدا عن المصالح الفلسطينية؟

والامر يسري كذلك على موقف العراق واليمن واذ ما كانت الصواريخ الموجهة للقواعد الاميركية والاسرائيلية، وتهديداتهم وبياناتهم العسكرية، واحتجاز الجيش اليمني للسفينة الاسرائيلية ما هي الا مسرحيات تديرها ايادٍ اجنبية، وسيناريوهات مرتبة بشكل كامل، واتفاقات مسبقة لتدمير العالم العربي؟

تقف هذه الاسئلة على ارضية واضحة جدا، وهي الهروب من التحليل المنطقي، والفحص الموضوعي للحدث، والتعلق في فرضيات فوضوية لا تقف على ارض صلبة، وتنطلق من التالي:

1- عقلية المؤامرة: وهو نمط من التفكير يؤمن فيه الشخص أن الأحداث التي تقع في العالم ليست كما هي معلنة، وليست عرضية أو طبيعية، وانما هي تأتي نتيجة اياد خفية ومجموعات سرية يديرها عدد من الأشخاص أو المؤسسات او المنظمات السرية. وغالبًا ما تكون نظريات المؤامرة السياسية مدعومة بتكهنات أو تفسيرات معقدة للأحداث لا يمكن إثباتها أو دحضها.

2- الحرب الاعلامية: يؤدي انتشار المعلومات المضللة عبر الإنترنت ووسائل الإعلام إلى زيادة انتشار عقلية المؤامرة، حيث قد يجد بعض الناس صعوبة في التمييز بين المعلومات الصحيحة والمضللة. ويستغل السياسيون هذا التوجيه الاعلامي لأغراضهم الخاصة. فنظريات المؤامرة غالبًا ما تخلق الانقسام بين الناس، وتساعد السياسيين على تحقيق أهدافهم بصورة افضل.

3- ضعف العقل التحليلي: يميل بعض الاشخاص إلى التفكير النمطي، ويكون هؤلاء أكثر عرضة لتصديق نظريات المؤامرة. فنظريات المؤامرة غالبًا ما تكون معقدة وغير مباشرة، ولكنها تتوافق مع التصورات النمطية للعالم. حيث يمكن لأي شخص نشر أي معلومة دون التحقق من صحتها، واذا وافقت او غذت هذه المعلومات الميول النفسية او المذهبية او العنصرية للشخص فسيكون اقرب الى تصديقها بغض النظر عن الحقيقة.

4- الهزيمة النفسية: يلجأ الأشخاص الذين يشعرون بالتهديد أو الاضطهاد إلى تصديق نظريات المؤامرة كنوع من انواع الدفاع النفسي. فهي تعطي لهذا النمط من الأشخاص تفسيرًا او تبريرا لما يحدث لهم، وشعورًا بالارتياح للتخلص من ذنب التقاعس عن اتخاذ الموقف المناسب، فقد ينطلق اتهام المقاومة بالعمالة للعدو من الحاجة للهروب من الشعور بالذنب لتقصيرهم في نصرة المظلوم.

5- الاختلافات الثقافية: قد تؤدي الاختلافات الثقافية إلى ظهور تفسيرات خاطئة تنطلق من الهوى والميول الشخصية، حيث يجد بعض الناس صعوبة في فهم أو قبول تفسير للأحداث التي تقدمها الثقافات الأخرى، ويعزز ذلك من الاستعداد في رفض الحقيقة طالما لا تنتمي الى بيئته الثقافية والدينية والاجتماعية، وهي ردة فعل تنبع عن الخشية من تعزيز هوية الاخر، والاستعداد لتصديق الروايات الوهمية ان كانت تدعم الهوية الذاتية.

6- الحاجة إلى التفسير: يسعى الإنسان إلى فهم العالم من حوله بشكل واضح وجلي، والبحث عن تفسير منطقي للأحداث التي تدور فيه. وعندما لا يمكن تفسير حدث ما بشكل منطقي، يلجأ الكثير من الاشخاص إلى التفسيرات الخرافية والوهمية، ومحاولة تصديقها وربما الدفاع عنها.

ان معظم النظريات والاتهامات التي تفسر الاحداث السياسية في مناطق الصراع انما تنطلق من مواقف مسبقة تحقيقا لرغبات ذاتية، او انسياقا مع مسار الالة الاعلامية الجبارة التي تُزيف العقل، وتحاول ان تقلب الحقائق، لاسيما وان شعوب العالم تعرضت لاكبر عملية تنميط تاريخي.

وما حدث خلال السنوات السابقة هو تمرير "الطفولة السياسية" بوصفها نمطا صالحا لتفسير الاحداث وتحديد المواقف، بحيث لا يمكن ان تتعاطى مع الاحداث مهما كانت جسيمة الا بوصفها "مباراة كروية" بين فريقين، وعلى كل مجموعة ان تتحيز لطرف ما وتدافع عنه وتصفق له، وتبحث له عن مبررات، وتشتم الفريق المقابل، وتعاديه وتبغضه، بغض النظر عن الحقائق او تفاصيل الحدث.

فالليبرالي ينكر انجازات حماس لانها اسلامية، وليس بناء على تقييم ادائها في الساحة، واعداء ايران ينكرون دورها النضالي لانها فارسية وان كان تزويد ايران لحماس بالاسلحة مثبتا في الساحة الدولية، واعداء حزب الله يتهمونه بالتخاذل عن نصرة غزة وان كان هو الجهة الوحيدة التي قدمت دماء رجالها في الجبهة الشمالية لاسرائيل في الوقت الذي يناصرها البعض بالهتافات.

ويبدو لي ان تراجع العقل التحليلي، واتخاذ المواقف بناء على الآراء والنظرات السريعة، البعيدة عن الدراسة والتأمل، هو نتيجة ندرة التحليل السياسي المتخصص في العالم العربي. فاغلب المحللين اتجهوا الى التغريدات السريعة، او المشاركات الاعلامية التسويقية، ضمن نظرية تسويق الذات بدلا من تسويق المحتوى، بما ادى لانخفاض قيمة الانتاج العلمي، وهو ما ساهم في سطحية العقل العربي عموما، وانسياقه خلف الاوهام والادعاءات المضللة.