مسرح الاستبداد: من طغيان الدولة إلى طغيان الجماعة

أصبح كل من يختلف عن المألوف يهدد بخطر الإقصاء.

تُعد الأفكار والآراء السياسية والدينية والثقافية منظومة أساسية في حياة الفرد والمجتمع، وتتطلب بيئة حاضنة للحوار البناء حتى تتطور وتزدهر. فالحوار هو بوصلة تُرشدنا لفهم الاختلافات، وبناء جسور التفاهم، والتغلب على الخلافات.

ولكن بيئة الحوار في مجتمعاتنا ليست في أفضل حالاتها، فهي بالضرورة انعكاس لدرجةِ التخلف الحضاري الذي تعيشه، اذ لا يمكن لواقع مستبد سياسيا ومتخلف اجتماعيا ومتراجع علميا أن ينتج بيئة حوار ناضجة وملهمة.

وعلى طولِ امتدادِ العالم العربي تصدر الاستبداد كلغة رسمية للحكم، ولا تكاد تجد دولة منها استطاعت أن تتفلت من هذا الإرث الثقيل. وبينما أًوجدت الدول الأوروبية معادلات خففت بها من حدة الاستبداد، فان دول العالمِ الثالث لاتزال مكبلة بقيود التسلطية حد الاختناق.

وقد انعكست طبيعة الأنظمة السياسية على القوى السياسية والاجتماعية والدينية النشطة، حيث تحولت الاخيرة مع مرور الزمن إلى عبء كبير على مجتمعاتها. فالكثير من الأحزاب السياسية والدينية والجمعيات والمنظمات لا تختلف من حيث الحدة والتسلطية عن الأنظمة التي تحكمها.

ثمة سلوك يتكرر وقناعات شبه راسخة تحدها ملازمة لهذه التكوينات، خذ على سبيل المثال تعاطي الجماعات الاسلامية مع الرأي المخالف، فالنصوص الدينية تشجع على التفكر والنقاش، لكن قادة الجماعة يعاقبون من يُقدم رأيًا مخالفا لآرائهم، ولا يترددون من اتهامه بضعف العقيدة، او الانحراف عن الصراط المستقيم.

والامر لا يختلف في الميدان السياسي، اذ تتضمن ادبيات الاحزاب السياسية تأكيدا على ان احد اهدافهم الرئيسية صيانة الحريات العامة، والدفاع عن اصحاب الرأي، لكنهم لا يترددون عن التشكيك في وطنية من يُثير قضايا حرجة تخالف قناعاتهم، ولا تتردد انظمتهم الداخلية من طرد المعارض لهم او تهميشه، او شن حملات اعلامية ضده.

ومثلما تعطي الدول العربية أهمية لصورة الحاكم، وكوفيته وشكل لحيته، فان الجماعات السياسية والدينية تركز على هيئة الزعيم ولباسه وطريقة كلامه. ومثلما تُنفق الدول أموالًا طائلة لنشر صور الحاكم وتوزيعها، فان الجماعات تخصص ميزانيات كبيرة لطباعة صور الزعيم وتعليقها في المجالس والطرقات.

لقد أدى الاستبداد والتسلط إلى ظهور مستبدين ومتسلطين على مختلف المستويات، من الحكام الذين يتذرعون بحماية الوحدة الوطنية إلى الأحزاب التي تدعي صيانة الحرية والدفاع عن الدستور، والجماعات الدينية التي ترفع شعار الدفاع عن القيم والشريعة. كل ذلك أدى إلى إغلاق أبواب الحوار خوفًا من الفتنة.

وأصبح كل من يختلف عن المألوف يهدد بخطر الإقصاء. اذ يكفي أن تنتمي لمذهبٍ مغايرٍ للمذهب السائد لتصبح هدفاً للتهميش والتنمر، ولا يخفى حجم التضييق على بعض الممارسات او الشعائر الديني المخالفة للإطار العام، ويكفي أن تطرح تصوراتٍ وحلولاً خارجة عن الصندوق لتُواجه العداء السياسي أو حتى التكفير الديني.

وفي عالم تقاس فيه الأفكار بسلطة القوة لا بقوة الحقيقة، يصبح الحوار رحلة محفوفة بالمخاطر، ونور المعرفة مهددًا بظلال الخوف. حينها يلجأ العلماء إلى إحراق مؤلفاتهم خوفًا من الاضطهاد، بينما يُخفي آخرون آراءهم تجنبًا للعقاب.