المراقبة المتأنية والتفاعل الحذر.. روسيا ومحددات التدخل في غزة

روسيا غير مقبولة كوسيط لدى الفاعلين والمؤثرين والمعنيين بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني.

في أعقاب الهجوم الذي نفذته حركة حماس في مستوطنات غلاف غزة، بدا الموقف الروسي كغيره من المواقف الإقليمية والدولية، في حالة من الذهول، جراء الهجوم وقوته واتساع نطاقه ودقة التخطيط، وما تلا ذلك لجهة فوز حماس برهائن مدنيين وأسرى عسكريين، الأمر الذى أربك بقوة المؤسستين الأمنية والعسكرية في إسرائيل. لكن ومع استيعاب الهجوم الحمساوي، انقلب المشهد بعموم عناوينه وبدأت إسرائيل الحرب في غزة، وفق محددات ارتكزت على إستراتيجية تهجير الفلسطينيين من غزة، ودفعهم نحو وطن بديل خارج حدود القطاع، فضلاً عن محاولة فرض واقع جديد ترتكز جُزئياته في أطر القضاء على حماس، وترسيخ السيطرة الإسرائيلية على عموم الجغرافية الفلسطينية.

استمرار الحرب في غزة جمّد مواقف غالبية القوى الإقليمية والدولية، ووضعها في أطر المصالح مع إسرائيل. روسيا بدورها اتخذت موقفاً مناوراً بين مراقبة التطورات في غزة بطريقة متأنية، وبرمجت تدخلاتها بدقة، فالحدث في غزة يتطلب وفق المنظور الروسي تفاعلاً حذراً، وإن بدا الموقف الروسي مناوراً بين إدانة طرفي النزاع، وتصويب السهام نحو السياسات الأميركية والغربية تُجاه الواقع الفلسطيني، لكن روسيا ومن خلال قراءة تصريحاتها عُقب التطورات في غزة، فإنها تبدو أكثر ميلاً إلى حماس، حيث رأت موسكو أن ما يدور في غزة من أحداث إنما يعبر عن فشل سياسات واشنطن في الشرق الأوسط، لأنها ووفقاً لتصريحات بوتين "احتكرت القرار بشأن التسوية، وأبعدت الأطراف الأخرى". بل ذهب بوتين أبعد من ذلك بالقول "إن جوهر المشكلة هو عدم السماح للشعب الفلسطيني بإقامة دولته".

بهذا المعنى فإن تفاعلات الموقف الروسي بشأن الحرب في غزة، جاءت فقط في سياق انتقاد المواقف الأميركية والأوروبية، دون اتخاذ موقفاً بارزاً يكون مؤشراً على لعب دور بارز في سياق خط الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، باستثناء مشروع القرار الذى قدمته لمجلس الأمن بوقف إطلاق النار لدواعٍ إنسانية، ولم يتم تمريره نظراً لاستخدام الفيتو من قبل الولايات المتحدة، ليكون بذلك التفاعل الروسي مؤطراً بتصريحات يترجمها الكرملين تارة والخارجية الروسية تارة أُخرى، الأمر الذي لا يُعطي لموسكو دوراً موازناً أو معادلاً للدور الأميركي والغربي.

ورغم مواقف موسكو الهادئة من الحرب في غزة، إلا أن إسرائيل أبدت وفي أكثر من مناسبة استيائها من تصريحات الساسة الروس، لاسيما أن تلك التصريحات تتعارض وفق المنظور الإسرائيلي، مع حالة التنسيق الأمني بين موسكو وتل أبيب في ملفات متعددة، من بينها الملف السوري. لكن روسيا - بوتين، لديها حسابات تتعارض مع الرؤية الروسية، ولا يعني التفاهم حيال الملف السوري في بعض الجُزئيات، تعميماً على ملفات أُخرى. فحالة التنسيق الروسي الإسرائيلي بشأن سوريا، لم تمنع إسرائيل من تبني مواقف رمادية حيال الحرب الروسية في أوكرانيا، وربطاً بذلك فإن روسيا بدورها لم تُصنف حركة حماس على أنها "جماعة إرهابية"، مثل الولايات المتحدة وأوروبا، بل ثمة علاقات يُمكن وصفها بالمتوازنة تربط روسيا بحماس، الأمر الذي يفرض تساؤلاً حيال الموقف الروسي من حرب غزة، وعدم اتخاذها موقفاً سياسياً داعماً للمقاومة في فلسطين، يكون نداً للموقف الأميركي والغربي الداعم لإسرائيل.

العلاقات الروسية التي تجمع بين اسرائيل وحماس، يضع موسكو أمام مقاربة تفرض عليها اتخاذ خطوات مدروسة حيال التوصيف واتخاذ السياسات حيال الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، وعليه فإن النهج الدبلوماسي التقليدي الذي تتخذه موسكو تُجاه حماس وإسرائيل، يمكن وضعه ضمن خيارين:

الأول - الذهاب لدعم إسرائيل في سياساتها حيال فلسطين، وذلك حفاظاً على إبقاء حالة التعاون والتنسيق معها في حدودها القصوى، وتحديداً في سوريا حيث منطقة النفوذ الروسي الأولى في المنطقة، لكن المواقف الروسي بصورته السابقة قد يضر إلى حدّ بعيد العلاقة المتأزمة نوعاً ما مع إيران، خاصة أن الأخيرة تُدرك بأن استمرار التعاون والتنسيق الأمني الروسي الإسرائيلي في سوريا، يضر بالمصالح الإيرانية، وهذا ما ترجمته العديد من الصحف الإيرانية، لجهة تماهي روسيا مع السياسات الإسرائيلية التي تسعى لإخراج إيران من سوريا بشتى الطرق.

الثاني - يُمكن أن تلجأ موسكو إلى دعم حماس سياسياً وحتى عسكرياً واستخباراتياً، لموازنة الدور الأميركي، وبذلك تكون قُطباً فاعلاً ومؤثراً في مفردات الصراع الإسرائيلي الفلسطيني. لكن ضمن هذه المقاربة ثمة مخاطر جمّة قد تواجهها موسكو في سياق الحرب الاوكرانية، لجهة ارتفاع مستوى الدعم الأميركي الغربي عسكرياً ومادياً لأوكرانيا، الأمر الذي قد ينقلب على روسيا في الجغرافية الأوكرانية.

بين هذا وذاك، يبدو واضحاً أن روسيا تعمل على تسويق نفسها كوسيط، إذ أنه ووفق المنظور الروسي، فإنه يمكن أن تقدم روسيا خبرتها في مجال تخفيف حدة التوترات وتحقيق تهدئةً في عناوين الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، على غرار ما قدمته في سياق الصراع السوري، لكن ثمة إشكالية في هذا الدور. فالصراع الذي يجمع اسرائيل وفلسطين، مختلف بالكليّة عن الصراع السوري، خاصة أن روسيا غير مقبولة كوسيط لدى الفاعلين والمؤثرين والمعنيين بالصراع الاسرائيلي الفلسطيني، كما أن روسيا تأخذ في الحسبان العامل الإيراني المرتبط أولاً بـ "المقاومة الفلسطينية"، والتعاون مع روسيا في ملفات مشتركة ثانياً، مع الإدراك الروسي الكامل بقدرة طهران على نقل الصراع من واقعه الحالي، إلى صراع إقليمي حاد لا يتناسب وجوهر الإستراتيجية الروسية إقليمياً ودولياً.

وفق ما سبق، فإن روسيا وحدود دورها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني لا يرقى إلى الانخراط السياسي واقعاً وفعلاً في ذاك الصراع، ويبدو من خلال ذلك، بأن روسيا تنظر وتنتظر تطورات الأحداث في فلسطين، وتعتقد حتى اللحظة أن جُل ما حدث ويحدث لا يستدعي تدخلاً مباشراً. نتيجة لذلك فإن روسيا لا تتوافر لديها خطة عمل حيال طبيعة مشاركتها وحدود دورها في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني ووقف التصعيد في غزة، ليبقى وفق ذلك الدور الروسي ضمن جُزئيتي المراقبة المتأنية والتفاعل الحذر، مع محاولة اقتناص الفرص بشأن إعادة صياغة النظام الدولي، وكسر الاحتكار الأميركي لصناعة القرار الدولي.