الوطن الجريح في 'الشعارات تتبارى'

إن فضاء الوطن الجريح العراق في المجموعة القصصية للربيعي هو فضاء العجائبي حينا وفضاء المفارقات والهزل أخرى، لكنه أيضا فضاء الحنين والفقد.

 2 - فضاء الوطن الجريح:

لئن بدا الراهن مهيمنا على السرد وبارزا في عدد هام من أقاصيص الربيعي في "الشعارات تتبارى" وقد تنزلت في فضاء الوطن الثائر (تونس)، فإن الذات وهي تحتمي بذاكرتها لا يسعها إلا أن تنفتح على ماضيها ووطنها الجريح (العراق) تسترجع منه بعض مؤثثات تاريخه، شخصياته وأمكنته، لغته ولهجاته. استدعاء الماضي صريح ومباشر حينا واستعاري أخرى يوظف له عبدالرحمان مجيد الربيعي التاريخ والأسطورة والعجيب وينزله في فضاء الوطن الثاني ليصوغ خطابا قصصيا مختلفا تنسج عبره صور قصصية متنوعة تفارق الواقعي.

يتعين العراق بلدا والناصرية مدينة في مجموعة الربيعي "الشعارات تتبارى" أمكنة تؤثث الفضاء الثاني، غير أنها لا تهيمن إلا في أقاصيص ثلاثة من المجموعة (جودي الذي كان يغني، رأس عوج بن عنق المفقود، ما جرى لروزا وجميل). في حين تتعالق وتتقاطع الأمكنة المنتمية إلى تونس والعراق في عدد هام من الأقاصيص. ويتأكد التقاطع والتماهي بين الفضاءين حين تكون بعض سمات المكان أو الشخصيات قادحا للذاكرة.

يمكن إدراج قصة "جودي الذي كان يغني" ضمن سرديات المحكيات المرجعية الذاتية أو كتابات الذات، وعلى وجه التدقيق في أدب البورتري السيري كما تعرّفه بعض الدراسات. وهو "مقام نصّي وصفي يبني هوية تمكّن من التعرف على أنموذج بشري ما" (جليلة الطريطر: أدب البورتري النظرية والإبداع. دار محمد علي للنشر ط1. 2011. ص 48) وتنصهر في هذا المقام النصّي مكونات السمات الجسدية عبر الوصف الخارجي للشخصية والسمات النفسية (المبادئ والطباع والمشاعر والأفكار) والمكوّن الاجتماعي بوصف الأطر الزمانية والمكانية. في قصة جودي مؤشرات ثلاث تؤكد انزياح العقد القرائي إلى جنس البورتري السيري أولها بداية النص حيث يعلن الفعل الاستدعائي التذكري على لسان الراوي  حضور الأنا متذكرا ماضيه: "أتذكره جيدا. كيف يغيب من ذاكرتي .." وثاني مدعمات هذا البعد السيري هو ارتباط الذكرى بمدينة الناصرية بالعراق وهي منشأ الكاتب وقد جعلها إطارا مكانيا مرجعيا للعديد من شخصياته القصصية كما كانت حيزا أساسيا للذكرى في كتابه "وجوه مرّت، بورتريهات عراقية". (دار ميزوبوتاميا للطباعة والنشر.ط2..2013). كما تتأكد مرجعية المحكي في عتبة الإهداء التي ذيل بها المؤلف نص جودي. فقد أهدى "القصة" إلى الشاعر عبداللطيف اطيمش وهو نفسه من كتب مقدمة بورتريهات عراقية، وإلى المخرج العراقي قاسم حول بوصفهما شاركا في كتابة سيرة هذه الشخصية شعرا وإخراجا.

رسم الراوي بورتري جودي ليحتفي بمظاهر الحياة التي بثتها الشخصية في محيطها لكنه يعلن في الوقت نفسه ضياع المدينة (الناصرية) وضياع الوطن بانتهاء هذا الاحتفاء بالحياة. تتحول القصة في هذه الحالة إلى سيرة وطن يتلاشى تحت وطأة تحولات غامضة غموض المرأة ذات البرقع التي تحب جودي لكنها تدعوه إلى الكفّ عن الغناء، تلاحقه في كل حفلاته ثم تختفي فجأة ليحل الظلام محل النور الذي كان يشرق معها. ويصبح الصمت بديلا للكلام والغناء. يتلاشى الحماس لكل شيء ولا يبقى سوى سؤال غامض: هل ستأتي تلك المرأة من جديد؟ ألا يكون جودي الذي كان يغني هوالعراق الذي كان يغني وينبض حياة وأملا؟

يمكن قراءة قصة جودي في مستواها الأول السيري المرجعي بوصفها جزءا من ذاكرة الكاتب ومن ذاكرة المكان (الناصرية والعراق). ويمكن قراءتها في بعدها التخييلي بوصف الشخصية رمزا "لهوية وطن ضائع" أو رثاء لوطن فقد حبه للحياة فكانت انكساراته أكبر من أحلامه. ذلك أن فضاء الانكسارات لم يعد يتسع سوى للأحزان والأوهام.

قد ينطلق القص في المجموعة من فعل استرجاعي يستدعي فيه الراوي بعض ذكريات طفولته وقد حفلت بالخرافات والحكايات العجيبة ترويها الجدات ويتناقلها الرواة فيعيدون صياغتها مع كل حكي أو رواية شفوية. والحكاية في قصة "عوج بن عنق" تتصل بشخصية غريبة، رجل عملاق يمتلك قدرات خارقة "فقد اتفقت الحكايات على أنه عندما يجوع يمد يده في النهر فيستخرج سمكة كبيرة، يرفعها إلى أعلى ليتم شيّها على أشعة الشمس ثم يلتهمها". تلك الحكاية النواة، غير أنها تتمدد عبر الكتابة والقص، وتتفرع حذفا وإضافة وقد أدرك الراوي (الطفل في القصة /المؤلف في الواقع) أن أثر الحكاية يكبر كلما تطورت لذا يتلقفها من ألسن الرواة ويعيد صياغتها ليحملها دلالات متجددة.

تتحوّل بذلك قصة عوج بن عنق "حكاية عجيبة" مفارقة للواقع ولكنها تكتسح فضاء الأسطورة بالعودة إلى قصة الطوفان. لقد أعادت القصة تنظيم هيكل الحكاية بل نسجت قصة جديدة على تخوم حكاية معروفة ذات أصل تاريخي أو أسطوري أو عجائبى أو ملحمي ليكون التناص بين القصة والحكاية ضربا من ضروب تجديد القص وتطويره.

بين ثنائيات الحياة والموت والإعمار والتخريب، بين الممكن والمستحيل، تتحول الحكاية في الفضاء والزمان تتشرب الأسطورة القديمة تستعير منها رمزيتها وتعيد صياغتها لتوائم الحاضر وتبني دلالات جديدة يقتضيها السياق وأفق التأويل. ويكون الأدب بذلك "حافظا للأساطير محوّلا لها ومنشئا لأساطير حديثة وبنى خيالية تقص قصة الإنسان في الكون والمجتمع" (محمد عجينة: حفريات في الأدب والأساطير، دار المعرفة للنشر، ط1، 2006، ص 75). ويشي تردد الحكاية على ألسن الرواة شفويا بأنها جزء من ذاكرة الراوي ومن ذاكرة وطن فهي جزء من تراثه الشعبي. هو نفس الوطن الذي خربته أقدام الغزاة لتسرق ثروته وتراثه وذاكرته (سرقة المتاحف بعد غزو العراق). لقد اضطلعت الأسطورة قديما بوظيفة دينية عقائدية هي الكشف عن حقائق العالم وبوظيفة اجتماعية أخلاقية تعليمية، لكنها إذ تتحول إلى عالم الأدب فهي تضطلع بوظيفة فنية إضافة إلى رمزيتها التي بها تتشكل رؤية للعالم، فتغدو رؤية جمالية متعالية عن الحسي العابر.

وتتخذ قصة "ما جرى لروزا وجميل في ذلك الزمن الثقيل المختل" مسارا شبيها بسابقاتها في فضاء الانكسارات إذ تولد من رحم الذكرى يستعيدها الراوي من ماضيه القريب والبعيد. تتناسل الحكايات في هذه القصة في بنية قائمة على التضمين معتمدة نظامي التتابع والاسترجاع ليكون ظاهرها تعدد في الشخصيات والأطر والرواة والوقائع يشي بتفكك في البناء يتعارض مع مقومات القصة القصيرة، وباطنها انسجام وتناغم تنشد فيه اللبنات إلى بعضها بخيط رفيع. تتنوع الأماكن وإحالاتها المرجعية الواقعية في هذا الفضاء (العراق، الأردن، روسيا، النمسا، إيطاليا) لكنها تجتمع حول ثنائية مركزية هي منبع المفارقات في القصة وجزء من آليات الهزل.

تنهض الحكايات المرحة بوظيفة تحقيق المتعة والتسلية للراوي والمروي له على حد سواء. ولكي تتواصل المتعة ويحتد فضول المروي له تتوالد الحكايات متشابهة حينا متقابلة أخرى وتلتقي على اختلاف شخصياتها في نحت عالم من الصور الحياتية الهجينة المتناقضة هي وجه من وجوه تشوهات الواقع في هزل هجائي يمكن قراءته كنزوع إلى نقد القيم الثقافية والاجتماعية عبر بلاغة الهزل وتوظيف أساليب القص التراثية والحديثة، تتحول فيها الحكاية الشفوية في مجلس إلى خبر صحفي أو رسالة  تتلقفها الوسائط الحديثة إلكترونية فتتكيف بطابعها وتخضع لشروط تلقيها إيجازا وتكثيفا. تتحدى الحكاية سلطة الزمان المتناسي والمكان المحاصر لها، وتصوغ رؤية للعالم قوامها أن المفارقات هي ميسم الراهن، وأن المرح السائد ليس سوى محاولة للتخفي من أزمة الذات المتمزقة في علاقتها بذاتها وبالآخر. هو اختلال الذات العربية العاجزة عن إيجاد التوازن بين مقتضيات الحداثة وسلطة الموروث. ليس المرح الهزلي في القص سوى محاولة لحفظ التوازن في مجتمع مختل ومقلوب وصورة لعلاقة الإنسان العربي بالذات وبالعالم، نهضت فيه الفضاءات بتنوعها وعجيبها ومفارقاتها بدور حيوي في البحث عن المعنى المفقود في زمن مختل.

إن فضاء الوطن الجريح (العراق) في مجموعة "الشعارات تتبارى" للربيعي هو فضاء العجائبي حينا وفضاء المفارقات والهزل أخرى، لكنه أيضا فضاء الحنين والفقد، فضاء الخراب والدمار بعد أن كان رمز الحضارة والإعمار. يرسم السرد صورا متعددة لهذا الفضاء فيستعيد من خلاله عالما خصبا بالذكريات والشخصيات والوقائع، تحيي الكتابة ما اندثر تثبته في الذاكرة والتاريخ. لكنها تسائله وتحاوره عبر رؤية الراوي وما تنشئه في المتلقي من أصداء الخوف والشك، من انفعالات متباينة وأحاسيس ومواقف متناقضة.

تركيب:

تشكل أقاصيص الربيعي في مجموعته "الشعارات تتبارى" عالما تتبارى فيه الفضاءات كما الشعارات، تتقابل حينا وتتماهى وتتلاقى أخرى.. تجلو هواجس الراوي والمؤلف رغم التخفي تحت قناع الهزل والعبث والمفارقات والسخرية. فضاء القص في المجموعة منفتح على هموم الواقع والراهن يرصده ويعيد بناء لوحاته في غير تكلف أو عناء لتكون المشاهد أحيانا أقرب إلى لقطات سينمائية عابرة ودالة. وهو أيضا فضاء منفتح على الماضي وعلى تاريخ القص الشفوي والحكايات والأساطير..

تستعيد الكتابة الأسطورة والخبر والحكايات العجيبة والمرحة كما تستثمر الوسائط الحديثة وأساليب الكتابة فيها لصياغة عالم تخييلي وتجديد دماء القصّة القصيرة عساها تحتل موقعا أقرب إلى المتلقي اليوم. وهي مع ذلك إذ تغازل القارئ بمعانقة همومه الراهنة لا تدعوه إلى الطمأنينة والاستسلام. ففي نهاية كل أقصوصة كما يرى أوزوالد "يلوح العالم أكثر فوضى والوعي أكثر اضطرابا وحرجا مما كانا عليه في بدايتها" إنها لترمي به في مدارات الحيرة والتيه والشك بحثا عن دلالات شعارات صاغتها الكتابة وأخرى يبنيها التلقي في فضاءات وطن ضائع وحلبات وطن ثائر.