اللغة الدرامية بين اللون والقوالب الفنية

بعض كتاب السيناريو وبعض المصورين والمخرجين يستطيعون استغلال طاقة اللون، وما يرمز إليه، في الكشف عن مكنون الشخصية، ومشاركة الطبيعة بألوانها المشرقة.

تختلف لغة الدراما عن اللغة العادية في أنها تحمل شحنة الصراع الناتج عن تعارض الإرادات المختلفة في النص الأدبي أو النص المرئي (السيناريو)، كما تحمل تلك اللغة حوارًا مكثفًا يكشف عن شخصية المشاركين في العمل سواء على الورق أو على الشاشة، وهذا الحوار المكثف يختلف عن الحوار العادي الذي قد يهدف أحيانا إلى تزجية الوقت وانقضائه في عمل لا هدف له.

وتلعب الألوان دورًا مؤثرًا في سبر أغوار الشخصية الدرامية، وفي استغلالها (الألوان) كرموز وأقنعة داخل العمل الدرامي، وفي الكثير من الأعمال يرمز اللون الأسود – على سبيل المثال - إلى طاقة الحزن والرحيل والفراق والألم، بينما يرمز اللون الأبيض إلى طاقة السلام والصفاء والتصالح مع النفس ومع الآخرين، أما اللون الأحمر فقد يرمز إما إلى حب عميق، أو إلى صراع دموي يؤدي إلى القتل وتدفق الدماء وانهمارها على أرضية المشهد.

ومن هنا استطاع بعض كتاب السيناريو، وبعض المصورين والمخرجين، استغلال طاقة اللون، وما يرمز إليه، في الكشف عن مكنون الشخصية، ومشاركة الطبيعة (في اللقطات الخارجية) بألوانها المشرقة أو الحزينة والكابية في تقدم العمل ومنحه ثراءً لونيًّا رمزيًّا، إلى جانب  الصوت (سواء البشري أو الموسيقى أو صوت الطبيعة) وتوظيفاته المختلفة.

وقد التفت الكثير من الفنانين إلى أهمية اللون في حياتنا الواقعية والدرامية، واستطاعوا أن يمجدوا أصحاب تلك الألوان الصريحة والرامزة بتقديم أعمال درامية عن حياتهم في أفلام ومسلسلات، منها على سبيل المثال الأعمال التي قُدمت عن فنانين مصورين من أمثال فان جوخ وجويا ولوتريك وبيكاسو ودالي ودافنشي وغيرهم. ناهيك عن بعض الأعمال التي تركت بصماتها بقوة مثل "صورة دوريان جراي" لأوسكار وايلد.

وكانت لي تجربة روائية عن أحد أهم الفنانين الرواد في مصر والوطن العربي وهو الفنان التشكيلي محمود سعيد (1897 – 1964) فوضعت عنه روايتين هما: "اللون العاشق"، و"الليلة الأخيرة في حياة محمود سعيد" (والأخيرة ترجمت إلى اللغة الفرنسية وصدرت عن دار نشر لا رمتان في باريس 2022، وإلى اللغة الإنكليزية وصدرت عن دار نشر الحاضرون في كندا).

وأناقش في "اللون العاشق" فكرة استخدام اللوحات الفنية في إثراء الأعمال الدرامية، عن طريق تعليقها على جدران مكان التصوير "اللوكيشن" (نهار داخلي أو ليل داخلي). فضلا عن استغلال المنظر الطبيعي بألوانه المختلفة وإشعاعاته المتدرجة في العمل الدرامي. كما أن نجيب محفوظ استثمر هذه التقنية في بعض رواياته مثل "السمان والخريف" فتحدث عن لوحة الزنجية التي عُلِّقت في فيلا أحد الباشوات بالإسكندرية، ومما يذكر أن لمحمود سعيد لوحة تحمل عنوان "الزنجية" أيضا (1926) .

وتعمدتُ إبراز تلك الفكرة عن طريق حوار المخرج السينمائي المصري الرائد محمد كريم مع الفنان التشكيلي محمود سعيد في رواية "اللون العاشق"، وبالفعل تم تطبيقها في أكثر من عمل درامي بعد ذلك.

كما أنني تعرضت في "اللون العاشق" إلى مناقشة فكرة اللوحات الدرامية التي عرضها الفنان الإنكليزي وليام هوجارث، "حيث ابتكر هوجارث – من خلال تنسيق مشاهده المصورة في سلسلة متصلة تروي قصة مكتملة مستمدة من الحياة المعاصرة – لونا جديدا من الفن انطوى شأن معظم مسرحيات عصره على حبكات مسرحية بالغة الإتقان، ومواجهات درامية عميقة وعناصر تراجيدية كاملة، وديكورات متنوعة" (ص 221 – 222 من اللون العاشق).

وعليه فكَّرَ محمود سعيد أن يجعل من "بنات بحري" سلسلة سردية أو سلسلة روايات مصورة. قائلا: "ينبغي استثمار عناصر تلك اللوحة (بنات بحري) في لوحات أخرى بطريقة سردية، أو بطريقة هوجارث، ولكن بأسلوبي أنا. ينبغي ذلك".