صباح عبدالنبي و'لحظة صمت' رهيبة

الكاتبة المصرية تكشف في روايتها القصيرة عن المسكوت عنه في إحدى القرى المصرية، وما فعله "جميع" في نساء القرية كي يخلِّفن، وآخرها آمال الزوجة الثانية لابن العمدة.

تكشف الكاتبة المصرية صباح عبدالنبي في روايتها القصيرة (نوفلا) التي تحمل عنوان "لحظة صمت" عن المسكوت عنه في إحدى القرى المصرية، وما فعله "جميع" في نساء القرية كي يخلِّفن، وآخرها آمال الزوجة الثانية لابن العمدة.

وقد استطاع الضابط "عصام بيه" بفراسته وربطه الأحداث بعضها بالبعض الآخر أن يحل لغز "جميع" الذي يهرب من القرية بعد أن انكشف أمره، وبعد أن حملت منه "آمال" بعد أن ادعى أنه امرأة عرّافة تستطيع أن تقهر العقم أو عدم الإنجاب، ببعض السحر والتعويذات.

إن "لحظة الصمت" هي "لحظة الفضيحة" التي لا يستطيع أن يتحدث خلالها أحد بعد أن حدث ما حدث. إنها لحظة صمت رهيبة خاصة عندما يتعلق الأمر بالزنا واختلاط الأنساب، لحظة كونية يحاسب الإنسانُ فيها نفسَه محاسبة عسيرة ربما يتمنى أن لو لم يُخلق من الأصل.

وعلى ذلك تدلنا العتبة الأولى للرواية، وهي عتبة العنوان على لحظة فضائحية سوف تتحدث بها تلك القرية المصرية التي تدعى "شق الرمل بحري البلد" وهي رغم اسمها فإنها غير متعينة على نحو معروف للقارئ.

إن تلك اللحظة الفضائحية سوف تستمر سنوات وسنوات، وسوف تؤثر على أجيال وأجيال، وربما تؤدي إلى إزاحة عمدة القرية الجديد (مظهر) عن عرش العمودية هو وأسرته طويلا، بعد أن توفي والده العمدة طاهر إثر الصدمة التي حاقت بالعائلة.

فالرغبة المجنونة في الإنجاب والخلفة، وتحدي إرادة الله في قوله تعالى: ﴿وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)﴾. [سورة الشورى]. ثم عدم الأخذ بأسباب العلم الحديث، وعدم ذهاب الرجال للأطباء المتخصصين في العقم، خشية من الأقاويل والفضائح، يسهم في إشاعة الجهل والتشبث بالأوهام والحيل وأساليب الدجل والهلوسة، حتى وقع المحظور ودخل الدجال والمشعوذ بيت عمدة القرية في صورة امرأة منتقبة، وفعل فعلته مع آمال التي أنجبت بالفعل منه ربما بعد تخديرها، وبذا يتأكد أن العيب لم يكن فيها، ولا في الزوجة الأولى وداد التي لم ينجب منها مظهر أيضا، ولكن العيب في مظهر الذي رفض أن يذهب للعلاج، رغم دماثة أخلاقه وطيبة قلبه، ومركزه الاجتماعي بالقرية، إلا أنه عند ذكر العلاج والأطباء يذهب مذهبا آخر بالرفض والإحساس بالمهانة.

وفي عتبة ثانية أهدت صباح عبدالنبي روايتها إلى أمها "التي زرعت فيَّ الخير فطرحت سنابل عفية" وإلى روح أبيها "التي تسكن روحي تقويني على رد صدمات الحياة القوية"ـ وإلى روح أختها الغالية "التي فارقتني دون وداع"، وإلى أبنائها الأربعة وكل أخواتها وأصدقائها.

إنها في هذه العتبة تؤكد على إهداء الرواية إلى المجتمع بعامة سواء مجتمعها الصغير المتمثل في الأسرة والعائلة، أو مجتمعها الكبير، لتحذرهم من عاقبة مخالفة أمر الله تعالى، ومحاولة الإنجاب بالقوة أو بالسحر والشعوذة، أو الأخذ بالأسباب في مثل هذه الأمور، وفي النهاية فإن إرادة الله هي النافذة.

الرواية تبدأ باستهلال شاعري تقول فيه الكاتبة "امتطى مظهر صهوة جواده، يقطع الطريق الطويل بين النخيل يتأمل طلعها النضيد يحلم مستبشرا".

وهو استهلال قوي يحمل شيئا من الرومانسية والأمل في غد أفضل مما هو عليه مظهر الآن.

وطوال الرواية يلعب الجواد دور المعادل الموضوعي لمظهر في أكثر من موقف. فلم يكن هذا الجواد مجرد حلية زائدة بالرواية. وهو ما يذكرني بالجواد أو الحصان الرمز في رواية "شباب امرأة" لأمين يوسف غراب، وقد نجح مخرج الفيلم صلاح أبوسيف في استخدام هذا الرمز في أكثر من لقطة (وقد أنتج الفيلم عام 1956) وكان بطولة شكري سرحان وتحية كاريوكا.

اعتمدت لغة رواية "لحظة صمت" في أغلبها على الفعل المضارع المستمر، والجمل القصيرة السريعة المتدفقة التي تتصف بالحركية الدائمة، ومثال على ذلك قول السارد:

"يرهف العجوز السمع، يترامى إلى أذنيه صهيلُ الجواد، فتشرق الفرحة في وجهه، تزداد عندما يبزغ ابنه من بين النخيل" (ص 7).

في هذه العبارة القصيرة على سبيل المثال نجد خمسة أفعال مضارعة متتالية: (يرهف، يترامى، تشرق، تزداد، يبزغ). وهي أفعال حركية تؤكد حيوية الرواية وحيوية أحداثها ما يجعل القارئ يلهث وراءها.

وعبارة أخرى اخترناها بطريقة عشوائية (ص 25) يقول فيها السارد:

"يطمئن العجوز لعودة ابنه، فيتحسس عكازه، يدقه على الأرض حتى يُلقي بجسده المنهك وعقله الحائر فوق سريره، يغلبه النوم".

هنا نجد أيضا خمسة أفعال مضارعة: (يطمئن، يتحسس، يدق، يلقي، يغلبه) الأمر الذي يؤكد انتشار هذه الأفعال على طول الرواية القصيرة التي صدرت عن دار اكتب للنشر والتوزيع.

وبينما جاء السرد باللغة الفصحى البسيطة، جاء الحوار بالعامية المصرية الشائعة في الريف المصري.

تعددت شخصيات الرواية الرئيسية ما بين العمدة (طاهر) وابن العمدة (مظهر) وضابط الشرطة (عصام بيه) وجميع (الذي يعرف في الحبَل)، بالإضافة إلى وجود شاحب للزوجتين الأولى وداد، والثانية آمال، وعدد من الشخصيات المساعدة من أفراد البيئة الريفية أو المجتمع الريفي حيث تدور أحداث الرواية.

ولعلنا نكتشف دلالة للأسماء المختارة في هذه الرواية، ف"طاهر" (العمدة) رمز للطهارة والمحبة من أهل القرية، فلم نر على طول الرواية من يكرهه أو يقلل من قيمته كعمدة لقريتهم، على عكس ما هو شائع عن عمدة القرية المصرية في العديد من الروايات والأفلام مثل عمدة فيلم "الزوجة الثانية" على سبيل المثال، أما ابنه "مظهر"، فهو كما نرى شخصية تحب الظهور وقد سلطت الكاتبة الضوء عليه وأظهرته في صورة فتى الشاشة الذي تحبه فتيات القرية ويتعللن بالكثير من الحجج ليشاهدنه وهو في الطريق الطويل بين النخيل، أو وهو يتجول في حديقة القصر، "فبنات المدارس الثانوية تتعمد ارتياد طريق الشاب، يدعين الخجل، تفك إحداهن ضفائرها وتشد أخرى حزام المريلة، تضيق محيط خصرها تبرز مفاتن جسدها آخذة في النمو". (ص 26).

أما "عصام بيه" ضابط الشرطة (صديق عمر العمدة)، فأيضا له من اسمه نصيب فمن خلال تتبع سيرته منذ أن كان ضابطا صغيرا وهو إنسان عصامي استطاع أن يحقق شيئا من الأمان لأهل القرية بسيطرته على مطاريد الجبل الذي كانوا يهددون القرية دائما، وظل مستعصمًا بأخلاقه الرفيعة وفيًّا لزوجته وهي من أهل القرية.

ولعلنا أيضا نكشف دلالة اسمي "وداد" الزوجة الأولى، و"آمال" الزوجة الثانية التي كان العمدة وابنه (زوجها) يعلقن الآمال عليها في إنجاب الولد حتى لا تخرج العمودية عن نطاق الأسرة.

أما "جميع" فهو اسم ربما يكون جديدا في الرواية المصرية، ولكنه دال هنا، وهو اسم سيظل في الذاكرة طويلا مثل حميدة في "زقاق المدق" وعيسى الدباغ في "السمان والخريف" وسعيد مهران في "اللص والكلاب" لنجيب محفوظ، ودرش في فيينا 60 ليوسف إدريس، وجوستين في "رباعية الإسكندرية" وغيرهم.

يدل اسم "جميع" أو "جُميّع" (بالصغير) على أنه أبٌ لجميع أطفال القرية التي نام مع نسائها اللاتي يشتكين من العقم. وعندما سأل الضابط عصام: مال الولد ده بالنسوان؟ كانت الإجابة: "ما هو بينزل البلد الصبح بعد الرجالة ما تروح الغيطان، ويرجع لخُصِّه المغرب، وخرجه مليان إشي حمام ورغفان قمح خالص، واشي جلاليب وسراويل وفنلات من بتاعة بلاد بره، وريحه غالية. يرد بابه عليه بعدما يستحم في الترعة، ويفضل طول الليل يهلوس (ويفقر) والبخور طالع من كل ناحية في الخُصّ".

وفي موضع آخر يقولون عنه "إنه بيعرف في الحبَل".

الكل مدان، نساء القرية ورجالها الذي يتركون "جميع" يدخل جميع بيوت القرية دون رقيب ولا حسيب. ولكن الضباط بدأ يشك في جميع عندما سأل العمدة: "هو عبده ولد جابر خلّف يا عمدة؟ غريبة طب إزاي؟".

الرواية تسير زمنيا في اتجاه خطي تقليدي، فلا يوجد تداخل في الأزمنة، ولا استرجاع للوراء (فلاش باك) ولا تقدم للأمام، ومع ذلك فهي رواية مشوقة تضعنا أمام قضايا مصيرية صاغتها الكاتبة في حبكة جيدة رغم عدم ورود تقنيات الرواية الحديثة بها.

كنت أرى أن تنتهي الرواية دون العثور على "جميع" أو دون القبض عليه، لتظل الإدانة مستمرة، ولكن شاءت الكاتبة أن تنهيها على عادة الأفلام المصرية بنهاية سعيدة، حيث يبحث عصام بيه أو الضابط ويجد في البحث عن هاتين العينين الحادتين تعلوهما عمامة أو نقاب، توزعان الكرامات على طلاب المقاعد في الجنة حتى يعثر عليه، ويعهد به إلى أحد زملائه ويوصيه بسرية الأمر.

ولكن لماذا السرية وقد افتضح أمر "جميع" أمام الجميع، ولكن نساء القرية لا تزال تلتزم الصمت أمام أفعالهن الشانئة وأمام اختلاط الأنساب، فعلا أنها لحظة صمت رهيبة.