ذكريات على شواطئ الأدب مع مختار عيسى

دائما في الغربة نعرف معادن البشر، وكم كان هو معدنًا مصريًّا أصيلا.

على الرغم من تعارفي إلى الشاعر والأديب مختار عيسى منذ الثمانينيات من خلال أعماله الأدبية، ومجلة "الساحة" التي كان يصدرها في المحلة الكبرى، ونشر لي فيها بعض مقالاتي، ومن خلال بعض اللقاءات العابرة في مؤتمرات وملتقيات وندوات داخل مصر، فعرفته شاعرًا مجيدًا ومتحدثًا مفوَّها وصاحب موقفٍ ورؤية، إلا أنني لم اقترب منه إنسانيًّا سوى في الكويت، عندما ذهبتُ للعمل في مجلة "العربي" عام 2010 وكان هو يعمل في جريدة "الوطن" ومجلة "الكويت".

ودائما في الغربة نعرف معادن البشر، وكم كان هو معدنًا مصريًّا أصيلا، التقيته في بيته بالكويت وخارجه، وكان دائما يجمع حوله عددا قليلا من الأصدقاء الأوفياء من أمثال الشاعر الكويتي دخيل الخليفة، والناقد المسرحي الدكتور أسامة أبوطالب والشاعر عبدالمنعم سالم والشاعر نادي حافظ، والشاعر أشرف ناجي، وغيرهم ممن لا أتذكرهم الآن. فكنا نلتقي في بيته دائما على إفطار رمضاني فيه كل ما طابت النفس من المحاشي والمشاوي (المشويات) والأكلات المصرية الصميمة من ملوخية وبامية ومكرونة باشميل بالإضافة إلى المخللات والسلطات وغيرها من التي كنا نفتدها في "عزوبيتنا" في الغربة، فكان يوصي زوجه الكريم (أم أحمد) بأن تقدم لنا كل الأكلات التي يحس أننا كعزَّاب أو بلا أسر معنا، نشتاق إليها ونفتقدها، فهي غير متوافرة كثيرا في المطاعم الكويتية، وحتى لو توافرت فلن تكون بها النَّفَس المصري الأصيل.

كنتُ أعمل في مجلة "العربي"، ومختار يعمل في مجلة "الكويت"، وعلى الرغم من أن المجلتين تصدران عن وزارة الإعلام الكويتية، فإنني كنت أشعر بتنافسٍ خفيٍّ بينهما، لذا لم أغامر بالنشر في مجلة "الكويت" عندما ذهبت للعمل هناك، على الرغم من أنني نشرت فيها كثيرا من قصائدي ومقالاتي قبل العمل في مجلة "العربي"، ولكن عندما طلب مني مختار عيسى عملا لينشره في "الكويت" لم أتردد كثيرًا، ولم أحسب حساب أي عتاب أو لوم من الممكن أن يوجه لي من رئيس تحرير مجلة "العربي" وقتها، ولم يحسب مختار أي لوم أو عتاب ممن الممكن أن يوجه له من إدارة مجلة "الكويت"، ويبدو أن هذا التصوّر لم يكن موجودا سوى في ظني أنا، لأنه بعد نشر المادة التي أرسلتها لمختار – وكانت عن رواية "عزازيل" على ما أتذكر، لم يحدث أي عتاب أو لوم سواء لي أو له من الإدارتين. وهذا ما شجعني على إرسال المزيد من المواد الأدبية والثقافية، حتى بعد أن غادر مختار الكويت، وجدت اتصالا من مديرة تحرير المجلة – وقتها - الأستاذة فائزة المانع تسألني لماذا انقطعت عن إرسال موادي للمجلة. وكان هذا أثرا جيدا تركه مختار عني لدى إدارة المجلة.

وقد لاحظت أثناء وجود مختار هناك أنه لم يتكالب على الظهور في المحطات أو البرامج التلفزيونية المختلفة، ولم يتصل بأحد كي تتم استضافته في برنامج ثقافي أو شعري – وما أكثرها هناك –  وعلى الرغم من ذلك فقد سجل في بعض القنوات عشرات اللقاء التلفازية مثل الفضائية الكويتية، وقنوات سكوب، والصباح، والصفوة،  ورواسي وغيرها. وفي الوقت نفسه كان يعتذر عن الظهور الإعلامي في قنوات الفضائية أخرى، حتى معي، عندما بدأت العمل في قناة البوادي الفضائية ضمن فقرة "البابطين الثقافية" وكنت أعدُّ برنامجًا ثقافيًّا حواريًّا بعنوان "حوار فكري" – وأحيانا أقدمه إذا تغيب أو تأخر المذيع أو المذيعة - دعوته أكثر من مرة للتسجيل فكان يعتذر بهدوء، ليس تكبرًا أو تعاليًّا، ولكنه كان يحب العزوف عن هذا الظهور مكتفيَا بالقلم والورقة والنشر في جريدة "الوطن" ومجلة "الكويت" وبعض النشرات الشهرية الأخرى. ودائما ما يقول "قلمي هو قناتي المفضَّلة والتي لا أسلمها لرقيب سوى التزام قيم الحق والخير والجمال، ولا تسعى إلا لرضا من وهب صاحبها من فضله وكرمه".

وكنتُ أعجبُ دائما بقدرته الفائقة على الكتابة السريعة والملبية لمتطلبات العمل اليومي الصحفي الثابت والمتغير، وخاصة في شهر رمضان المبارك حيث كان يقدم يوميا قصيدة طويلة عن المسحراتي ولكن من خلال أجواء ثقافية وسياسية، خلافًا لمسحراتي فؤاد حداد.

أما عن تجربته في النقابة العامة لاتحاد كتاب مصر، فقد كان مختار عيسى من الوجوه الجديدة التي لم أعرفها في مجلس إدارة الاتحاد قبل سفري للعمل في الكويت حيث كنت عضوًا بالمجلس، وقدمت استقالتي عندما ذهبت للعمل بالكويت. ولكن عندما عاد هو إلى مصر قبل عودتي، رشَّح نفسه وفاز بأصوات عالية أهَّلته ليكون عضو مجلس إدارة، ثم نائبًا لرئيس النقابة. وبعد عودتي من الكويت، عدت مرة ثانية عضوًا منتخبًا في النقابة، فلمست فيه القدرة على التوازن النقابي الفعَّال والقدرة على خدمة زملائه سواء كانوا من أعضاء المجلس أو من أعضاء الجمعية العمومية، فهو يترك منزله في المحلة الكبرى ويمكث بالأيام داخل مقر النقابة من أجل العمل العام الذي وهب نفسه له. ومن الغريب أن هذا العمل العام لم يؤثر بالسلب على إبداعه الأدبي سواء في الشعر (الفصيح والعامي) أو المقال أو الرواية التي دخل دائرتها أيضا فأنجز فيها وأبدع، وأضاف إليها من خلال النماذج التي قدمها لنا، وقد كتبتُ عن أكثر من عمل روائي له، مثل "استبربتيز" و"غلطة مطبعية"، وشاركت في نقاش بعض هذه الأعمال في أكثر من مكان، وأكدت أن لمختار عيسى مشروعه الروائي الكبير مثلما له مشروعه الشعري الكبير أيضا، فضلا عن مقالاته الثقافية والسياسية الساخنة التي تؤكد أنه من الأدباء والكتَّاب والمثقفين من أصحاب المشروعات والمنجزات الكبيرة.