خمسة عشر مهاجرة عربية تكتبن حكاياتهن في دروب المنافي

كتاب 'سيرتنا.. أجنحة ما وراء الحدود' تضم هذه الحكايات وهي نتاج ورشة عمل إبداعية أشرفت عليها وقدمتها الكاتبة السودانية د.إشراقة مصطفى حامد.

خمسة عشر حكاية على لسان مهاجرات/مغتربات/ناجيات من جحيم الاضطهاد والملاحقة، سواء الديني/السياسي أو الذكوري المجتمعي. كل منهن تحكي حكايتها بطريقتها وأسلوبها، عن الوطن الضائع الممزق، من سوريا وإريتريا والسودان ومصر انتقالا إلى دول أوروبا كالنمسا وألمانيا والسويد وسويسرا، ونرى حياتهن في تلك الدول وكيف فرضن حضورهن ونجاحهن هناك في مجالات إبداعية وفنية وعلمية متميزة.

هذه الحكايات التي ضمها كتاب "سيرتنا.. أجنحة ما وراء الحدود" الذي أشرفت عليه ونسقته وقدمت له الكاتبة السودانية د.إشراقة مصطفى حامد، وهو نتاج ورشة عمل إبداعية تحت شعار "ليس سوانا يكتب سريتنا" لكتابة السيرة الذاتية وتجربة النساء في بلاد المهجر/المنافي، سيرة المهجر بكل متاعبه وأحزانه، سيرة بلاد هناك بكل حروبها وسلامها في التعافي من جراحاتها.

من بين هؤلاء المهاجرات المشاركات بسيرهن: فايزة حربي بمان مخرجة أفلام وعالمة أنثروبولوجيا مصرية ومؤلفة من الإسكندرية، ومنى الرشيد دياب سودانية مقيمة في بريطانيا مدربة تنمية أسرية وبرامج تربية إيجابية، رجاء تركي الحوري ناشطة نسوية وفنانة تشكيلية سورية مقيمة في فيينا، ليلى حاجولة ناشطة اجتماعية، ممثلة سينمائية ومسرحية، كاتبة، ولاجئة في النمسا من أصول حلبية، سوسن ديكو كردية من سوريا مقيمة في النمسا، فيينا، ناشطة اجتماعية وفنانة تشكيلية، وندا الخوام كاتبة وشاعرة وصحافية عراقية.

تقول الكاتبة السودانية د.إشراقة مصطفى حامد في مقدمتها للكتاب الصادر عن دار صفصافة "بالكتابة نتعافى، الدواء الناجع الذي جعل خمسة عشر من المشاركات النابهات في هذه الورشة أن بالإمكان كسر الصمت، بأن يعلو صوتنا عاليا لنحكي حكاياتنا، وسريتنا في دورب المنافي والمهاجر، أصوات تنبض بالحياة رغم مواجع ومواجد الفقد والغيابات المريرة منذ حزمنا حقائبنا وتركن خلفنا الكثير من غبار الحيوات التي لا يمكن أن تعوض إلا بالإصرار والعزيمة بمواجهة مصائرنا المشتركة. ما الذي يجمع ما تناثر على الدورب من ذكريات، حكايات بكل تفاصيلها الموجوعة؟ كيف لانت شراسة الواقع الجديد في أوروبا؟ في مواجهة تعلم لغة جديدة، عوالم مختلفة وطقس شتوي يولد عذابات الحنين. كيف استثمرنا الفرص المتنوعة في أوروبا؟ كيف نجحنا في رسم خرائط لتحقيق الذات رغم ما حاق بالروح من ألم؟ كيف انتصرنا بالأمل لولا القدرة على الكتابة، بالتشبيك الذي أتاح للجميع مشاركة قصصهن في البلاد الأوروبية، قصص نبضت بالكثير المشترك، تختلف التفاصيل لحكاية واحدة، حكاية الحلم القديم الجديد في توزيع ثروة العالم وسلطته بالعدل".

وتوضح "هذه الورشة الثالثة من نوعها والتي نسقتها كاتبة هذه السطور عبر منصة "فنون بنات مندي" منطلقة من العاصمة النمساوية فيينا عرب الزووم، شاركن فيها مهاجرات، لأجن أغلبيتهن من الحروب التي دمرت أخضر الحلم ويابس الأرض المحروقة. مهاجرات من السودان، سوريا، مصر، إريتريا، العراق ويقيمن في مهاجر مختلفة لاجئات أو مهاجرات لأجل العلم والعمل وتحسين أوضاع الحياة وفي الغالب البحث عن ملاذ في النمسا، ألمانيا، السويد، النرويج أو بريطانيا والسعودية. هدفت الورشة إلى توثيق هذه التجارب، وأن تضع المهاجرات بصمتهن وإنهن لسن مجرد أرقام في سجلات الإحصاء الأوروبي، نساء واعيات، ملهمات، عركتهن التجارب الحياتية هنا وهناك، تعلمن الكثير وفي سلالهن خربات تعرفها الدروب التي مهدتها أقدامهن للقادمات بالنشيد الإنساني، سلال من ورد التجارب وأشواكها تفوح في كل الدروب وتترك أثرها وفواحها.

مقتطفات من سيرتهن

ـ الهجرة تليق بك أيها الحزن

أيتان بكلرو

مدرسة فلسفة سورية

بالرغم من كل ما عشناه من ظروف سيئة، لا كهرباء ولا مياه ولا غاز، فكنا نطبخ ونسخن الماء على نار الحطب، لكن عفرين كانت تنعم بالاستقرار والسلام، هذا لم يستمر طويلا، فقد حصل خلاف بين الجماعات الإسلامية وقوات حماية الشعب، تم قطع طريق حلب وعفرين ومنعوا وصول الإمدادات إليها من طحين وسكر، ونحن لم نكن آخذين هذا بعني الاعتبار وليس لدينا مؤونة كافية، بقينا لمدة يومين نأكل فتات الخبز اليابس، إلى أن ذهب زوج أختي إلى القرية الحدودية لتركيا واشترى بعض الطحين من المهربين. في هذا الوقت، قررت أن أذهب إلى حلب لأن ابني كان عليه أن يتلقى عالجه في المركز الصحي الخاص به، فهو يعاني من مرض البحر الأبيض المتوسط، ما يعرف "بالتلاسيميا". عند ذهابنا إلى الكراج كانت الناس متجمهرة، ووحدات حماية الشعب تمنع الأهالي من الخروج خوفا عليهم، وبعد إصراري سمحوا لنا بالسفر بسيارة تنقل المرضى.

لأول مرة أذهب من هذا الطريق، يا لهول الكارثة! عند وصولي إلى مشارف المدينة تزاحمت صور المخيمات أمام عيني، يا إلهي، كل هذه المخيمات... هل طرد الشعب كله من بيته؟ قرى بأكملها خيما، الأحجار لم تحمينا فهل هذه الخيم سوف تحمينا؟ بدأت دموعي تنهمر كمطر الشتاء، والحزن يعصر قلبي كيف سيكون شتاؤهم وصيفهم؟ وصلنا إلى حلب، ذهبنا إلى المركز، تلقى ابني عالجه وأخذ أدويته ومن ثم استلمت راتبي وراتب زوجي، في طريق العودة عند وصولنا قرية الدانة، بينما كنت في السيارة بانتظار أن تسير بنا إلى قرية أطمة، وإذا بي أرى الوجه الآخر لسوريا، انتشار عناصر داعش في كل مكان، من أجل ماذا هؤلاء الغرباء هنا؟ هل هؤلاء سوف يقومون بالتغيير وإقامة المجتمع المدني الديمقراطي؟ هل هذه هي الثورة التي كنتم تطرحون فيها شعارات الشعب السوري واحد؟. وجهت هذه الأسئلة إلى ركاب السيارة الذين كان أغلبهم من سكان المنطقة، والإجابات كانت صادمة، بعضهم أبدى ولاءه لهؤلاء الغرباء وبعضهم كان ضدهم.

مرآة المنافي

رجاء تركي الحوري

ناشطة نسوية وفنانة تشكيلية سورية مقيمة في فيينا

مرت أكثر من ساعتين علينا ونحن في عرض البحر، ها قد بدأ نور يظهر لنا في الأفق بعد دخولنا المياه الإقليمية اليونانية، وقد بدأ الموج يتهاون معنا ويهدأ رويدا رويدا، كان أول بزوغ لشفق الضوء المتسلل ببطء كقاربنا، كلما اقتربنا لاح لنا الشاطئ وباتت نفوس كل من في القارب بالهدوء ليتحول لطمأنينة وفرح عارم، هاقد بدأوا يلوحون بأيديهم ودواليب العوم للمتطوعين المنتظرين على الشاطئ، فيرسلون لنا إشارة ضوئية أن اقتربوا منا. الكل سعيد يهلل ويزغرد، أما أنا بالعكس، فقد تسارعت دقات قلبي حتى بت أظن أنها طبول تقرع، خيل إليّ بأن قلبي سيقفز من جوفي، علت الأصوات فرحا، وعلا نبضي حتى ظننت أن من حولي سمعه معي فبدأت بموجة بكاء شديدة، هنا فقدت أعصابي وجبروتي، ذهل كل من رافقتهم من أمري حتى المنقذين الذين دخلوا البحر، شاهدوا وسمعوا بكائي ظنا منهم أن مكروها أصابني، أنزلوني إلى الشاطئ وأنا منهارة لا أتذكر أني بكيت بمثله ذات يوم. من بين المتطوعين، اقتربت مني سيدة يقارب عمرها الخامسة والستين، وأخذت تحضنني وتبكي لبكائي وتقول وهي تربت على ظهري: "لا عليك أنت بخير وأمان اطمئني واهدئي"، ، ثم غمرتني ببطانية وأعطوني قنينة ماء، بعدها جاء فريق من الصليب الأحمر مع مترجم برفقة طبيب ليطمئنوا أنني لا أعاني من أي حالة مرضية، شكرتهم وأنا أقول: "لا مفر من القدر وهنا قدري". كيف لي أن أنس هذه المقامرة بأرواحنا، كيف؟

أجنحة  مدن الباء

 ندا الخوام

كاتبة وصحافية وشاعرة عراقية

فكرة مجنونة أن تقارع بجناحيك الهشة ثلاثية الحياة والموت والحرب في زمن الخذلان، وكأنك تسري وسط حقل ألغام منسي من حرب قديمة كنت قادرا على ترويضها لصالحك وتجنب عواقب الخطوة المتمردة المسير، لكنها روح المغامرة تزج بك وسط العواصف وبعلم من ضحكتك الساخرة من النتائج. الخسارات هي الأخرى فقدت قيمتها بعد أن تساوى الجميع بلا استثناء، ليصبح خبرا على قطعة قماش سوداء تعلق على جدارالبيوت في الأزقة. أربعون عاما وأكثر والحرب تسلمنا إلى حرب أخرى، وكلما نجونا من إحداها قلنا سلاما، لا زال في العمر بقية، سحبت البقية الباقية تلك وحشرتها في حقيبة سفر باتجاه بيروت، ومن هنا بدأت فكرة التحليق تنضج، حلقت بي الطائرة عاليًا حتى بدأت بغداد مدينة الخيال والجنون تصغر لتصبح بحجم نافذتها. الماضي أيضا بدأ يكتظ بالوقت نفسه في مخيلتي، وبين أصابعي ومساماتي وثيابي، ويتعلق بكل شيء يخصني ليتأكد من ارتجافة قلبي حنينا له، القيود، الرغبة، الطموح، التمرد والأهداف، كل تلك الأشياء تزاحمت على باب مخططاتي لتأخذ دورها في التنفيذ، كان التخطيط لقرار كهذا حصيلة عمر من الرفض لن أندم عليه فيما بعد، بل أيقنت تماما صواب قراري المكلف على الرغم من عدم معرفتي بثمنه الباهض جدا، إنه السقوط في شرك الاغتراب اللامنتهي والتشتت بين مدن أعشقها بكل فوضويتها، وأتوق إليها كلما غصت في هدوء برلين، المدينة التي قبضت عليّ وعلى الكثيرين من عشاق الكلمة والمعنى برغبة منها وأجبرتني على البقاء فيها حتى إشعار آخر.

أدركت تماما عمق الرحلة بين عواصم الباء الثلاث، بغداد، بيروت، برلين، وأنا بينهم طائر مكسور الرغبة لكنه مفعم بفكرة الطيران، محلق من مفكرة بغداد المكتظة بمواعيد الموت وهي تقلبها بعد كل تعداد متعب للوجوه التي لم تعد إلى ديارها عند كل مساء، وكيف نفدت من تواريخها الدامية أكثر من مرة، بعدما فصلت بيني وبين سيارة مفخخة بضع ثوان لا أكثر حين عبر بنا الباص من فوق جسر الجمهورية ببغداد، لنرى لمعان النار في الجو تلاه صوت مدو عصف بنا، لكن المرة الأصعب انفجارالسيارة المفخخة التي كانت مركونة في أول شارع بيتنا، وكيف ارتجت المدينة وقلوبنا معها ونجونا منها بأعجوبة، رددت بعدها لربما للقدر كلمة أخرى يريد قولها على مهل في رسم خواتيمنا.

سنوات الطائفية المقيتة السوداء سلبت منا أفراحنا وأماننا، وأسلمتنا إلى بقايا الزجاج المهشم من شبابيك التاريخ، لينبت بين أقدامنا أثرا لا يمحى، تحمله ذاكرتنا إلى المستقبل البائس المسجل فيه ناج من أرض الخلافة.