دور إيراني خطير في أزمة غزة

جميع الشواهد تقول بأن منطقتنا تقف في منعطف بالغ الحرج تاريخياً وانتحار جماعي أشعلته إيران ووكلائها.

لم يكن النظام الإيراني يوماً ما جزءاً من جهود الأمن والاستقرار الإقليمي والدولي، ولم تتماهَ سياساته مع توجهات الدول الاقليمية الساعية إلى تحقيق السلام والمضي في ترسيخ عملية التنمية، ولم نثق، كمراقبين ومتخصصين في الدراسات الاستراتيجية، أن طهران ستقدم دعماً للتوجهات الاقليمية الساعية إلى تصفير المشاكل ورأب الفجوات وجسر الخلافات، ولذلك فإن موقفها من الموقف الراهن في غزة ليس مفاجئاً بالمرة.

ما يشهده الشرق الأوسط في الآونة الأخيرة من جهود مكثفة لتوسيع نطاق عملية السلام بين إسرائيل والدول العربية يمثل بالتأكيد شهادة وفاة لجهود إيرانية طويلة استثمر فيها النظام الايراني موارد البلاد لمصلحة تحقيق أهدافه الأيديولوجية ومشروعه التوسعي ذا الطباع الطائفية البغيضة، ويلتقي هذا النظام في ذلك في أهدافه مع توجهات جميع التنظيمات الارهابية المتطرفة في منطقتنا، ويقفون جميعاً على أرض مشتركة تتلاقى فيها الإرادات وتتضافر فيها الجهود والخطط والمؤامرات. ولذلك فإن تفجير الوضع الاقليمي برمته يعد هدفاً استراتيجياً كبيراً للنظام الإيراني في الوقت الراهن، ورأسه حربته في ذلك هو ما يدور في غزة حالياً، حيث تختلط الأوراق ويمارس الخداع وتهدر حقوق مشروعة للشعب الفلسطيني بزعم الدفاع عن المقدسات الإسلامية.

بالأمس قام وزير الخارجية الايراني حسين أمير عبداللهيان بزيارة إلى بيروت، حيث كان له لقاء مع حزب الله وامل وحركة حماس والجهاد الإسلامي، وأطلق تصريحات نارية بخصوص رد ما يعرف بمحور "المقاومة" على إسرائيل ومشيراً إلى فتح جبهة جديدة في الصراع ضد اسرائيل، ومتجاهلاً كل الحسابات الاستراتيجية الموضوعية للمشهد الراهن في أزمة غزة.

بلا شك أن تصريحات الوزير الايراني تجسد المتاجرة بدماء الأبرياء في أبشع صورها، فمن يدفع الثمن في الصراع هم أبناء الشعب الفلسطيني العزل وليس سواهم، ومن المهم أن نتذكر في هذا السياق أن هذه التهديدات الإيرانية لم تتطرق تصريحاً أو تلميحاً إلى ترسانة إيران العسكرية التي صدعت العالم بوجودها، ولكنها تتحدث عن صراعات بالوكالة وتضحيات يقدمها آخرون نيابة عن إيران ونظامها، الذي يريد تحقيق أهدافه ولو ضحى بكل شعوب المنطقة، ولو سفكت دماء الجميع فلسطينيين أو عرب أينما كانواً!

اللافت في هذه الأزمة أنني، كمراقب، فوجئت بأنه حتى الشباب الصغير الذي كنا نعتقد أنه لا يعرف أبعاد ما يحدث في المنطقة، يدرك تماماً أن التصعيد المفاجئ في غزة من تدبير إيران وتخطيطها، وأن طهران لا تريد أن تمضي عملية السلام وفق ما هو معلن وأن تنخرط فيها دولاً عربية وإسلامية أخرى، خصوصاً الدول الاقليمية المؤثرة مثل المملكة العربية السعودية، لأن هذا يعني ببساطة عزل إيران إقليمياً وإسقاط شعاراتها وتآكل أيديولوجيتها القائمة على العنف واستمرار الوضع المأزوم إقليمياً.

نعم، لهذه الدرجة يبدو سيناريو إيران مكشوفاً وتبدو نواياها مفضوحة للجميع في منطقتنا، ولكن يبقى أن هناك من لا يزال يراهن على حدوث تغير ايجابي في قناعات وسلوكيات النظام الإيراني الثيوقراطي، وهذا لن يحدث مهما حصل النظام من فرص جديدة من جانب جواره الاقليمي، ولو كان هذا النظام قادر على تغيير أفكاره لكان أولى به أن يتغير فيما يتعلق بقبضته الحديدية وسياساته المتشددة التي تسببت في بناء عزلة قاسية وجدار حديدي بينه وبين الشعب الإيراني.

لا يجب على كل من يبذل جهداً في الوقت الراهن أن يشتت جهوده وأن ينظر إلى الشرق قليلاً حيث يجلس الملالي يحركون الدمى التي تكاد أن تقلب منطقتنا رأساً على عقب حتى لو تمت التضحية بنحو مليوني فلسطيني، وحتى لو تسبب المخطط في تقويض استقرار دول عربية، أو جرها إلى صراع عسكري كبير في إطار مخطط محكم لنشر الفوضى الاقليمية، التي ظن البعض أنها انتهت بالتقارب الإيراني مع جيرانه على الجانب الآخر من الخليج العربي، وحيث يبدو أن هذه الخطوط لم تكن سوى حلقة من حلقات تهيئة الأجواء للانتقال إلى المرحلة الثانية من المخطط الإجرامي لتغيير ملامح الشرق الأوسط بما يتوافق مع الأهداف الاستراتيجية الإيرانية، التي ترتبط ارتباطاً وثيقاً بمحاولة طهران توظيف بيئة العلاقات الدولية الراهنة، وما حدث من تآكل وتراجع في النفوذ الأميركي، لتحقيق هذه الأهداف.

جميع الشواهد تقول بأن منطقتنا تقف في منعطف بالغ الحرج تاريخياً، وأن ما نشاهده ليس سوى قمة جبل الجليد، وأن الأيام حبلى بالمزيد من المفاجآت والأحداث، وكل ذلك يتطلب طاقات وجهود دبلوماسية لا تزال غائبة، فالمجتمع الدولي منقسم منذ اندلاع حرب أوكرانيا، ولا مجال للحديث عن توافقات دولية وتحركات جماعية لوقف التصعيد الدائر في الشرق الأوسط.

ما العمل إذن؟ لا أحد يستطيع التنبؤ بما يحمله الغد من تطورات محتملة، واحتمالات خروج الصراع العسكري عن نطاقه الجغرافي الحالي واردة بقوة، سواء بفعل شعور الصدمة الذي اجتاح إسرائيل، أو بفعل ضعف هوامش التحرك الدبلوماسي إقليمياً ودولياً لوقف التصعيد، وبالتالي فإن الجميع أمام أمام فعل انتحاري جماعي أشعلته إيران ووكلائها في المنطقة.