رانيا يحيى تعاين 'فنون ما بعد الحداثة' في المسرح البوليفوني

الفن ما بعد الحداثي يسعى إلى تقديم قواعد جمالية جديدة، وإدراك مختلف للواقع بغض النظر عن البعد التسويقي أو التجاري فيه، فهذا جزء من حركة ما بعد الحداثة.

الفن هو ساحة الخيال المفتوحة للجميع، من دون حراسة أو وصاية، وغالباً ما ينبني موضوعه على الواقع بظروفه الاجتماعية والسياسية والأيديولوجية، التي تتضافر فيها العناصر لخلق عمل إبداعي، وعملية الإبداع تراكمية، لا تنفصل عن ماضيها، وقد يبدأ المبدع من حيث انتهى الآخرون، أو ينتزع بعض أفكار تستفيد مما طرح في السابق، أو قد يستلهم منها.

وبالتالي حينما نقف أمام موضوع شائك لتصنيف الفنون التي تتصل بحياتنا المعاصرة، وما بها من ممارسات نكتشف أن الأمر ليس باليسير، لكن الأفكار الفلسفية والرؤى المتجددة، تستوجب التعمق في تفصيلاتها لمواكبة الواقع، وواحد من أهم هذه المفاهيم المطروحة على الساحة والتي تلقى سجالاً كبيراً مفهوم ما بعد الحداثة، باعتباره مصطلحاً جدلياً يحمل بين طياته فهماً أوسع أكثر ديناميكية للعروض المعاصرة.

ينبغي التطرق إلى العلاقة بين هذا المصطلح وبين مفهوم الحداثة الذي يرتبط به ارتباطاً وثيقاً، فالتفكير في الحداثة اليوم يمثل أحد التحديات الكبرى التي يحدد مآلها إمكانية الفلسفة ذاتها، وذلك منذ أن أعلن هيغل أن وعي الفلسفة بذاتها لا ينفصل عن فهمها لزمانها، وهي من منظور مؤرخ الأفكار تمتد عبر أربع ثورات تشكل مقومات عصر من تاريخ الإنسانية: ثورة علمية في مجال الفيزياء مع نيوتن ولابلاس، وثورة سياسية تمثلها الديمقراطية، وثورة ثقافية تمثلها الأنوار في فرنسا وألمانيا، وثورة اجتماعية تقنية وصناعية.

يؤكد بعض الفلاسفة أن "الحداثة مشروع لم يكتمل" كما يرى محمد أركون أن بعض الدعاة لما بعد الحداثة يريدون ضمنياً القضاء على مشروع الحداثة والعودة إلى ما قبل الحداثة، فيحنون إلى الوراء، ولكن هناك شيئاً ما جديداً يريد أن ينبثق ويولد، أخذت ملامحه تتجلى في مختلف المجالات، كالنحت والفن التشكيلي والموسيقى والرقص والأدب والفكر والفلسفة والعلوم الاجتماعية وغيرها.

تشير د. رانيا يحيى في كتابها "المسرح البوليفوني.. فنون ما بعد الحداثة" إلى أن فلاسفة علم الجمال حاولوا تشكيل الأفكار الخاصة بالحداثة من حيث التركيز على فكرة الفرد واهتمامه بموضوع الذات، كذلك العلاقات الممكنة بين الفردية والمجتمع، وأيضاً ما يتعلق بذلك من أفكار حول العام والخاص، وحول النمطي والإبداعي وغيرها من الأفكار، التي تطورت فشكلت العالم الحديث وما بعد الحديث أيضاً.

أما جماليات ما بعد الحداثة فتنظر إلى نفسها باعتبارها تتجاوز القسمة الثنائية القديمة الخاصة بالفنون العليا والدنيا، أو الراقية والشعبية، أو الجميلة والتطبيقية، وأنها تقف على طرف نقيض للحداثة، فلم تعد المعايير الجمالية التي يقاس بها العمل الفني تسير وفق معيار ثابت أو محدد من قبل النقاد، حيث تعددت المعايير الجمالية التي تستقي مبادئها من جماليات الفن ذاته.

واستناداً إلى ذلك أصبح الفن لا يقتصر على الأبعاد الجمالية وحدها، ولكن يعتمد أيضاً على الأبعاد الاجتماعية والتاريخية والأخلاقية، وأصبحت فنون ما بعد الحداثة تحتوي على عدة مصادر تعبر عن المضمون أو المحتوى، وقد يكون حدثاً واحداً، لكن يخدمه تنوع المصادر كأن يحتوي على مضامين سياسية وعلمية واقتصادية وعقائدية، كل ذلك يعمل على تبسيط المحتوى وتقريبه من المتلقي لبلوغ الرسالة.

إجمالاً يسعى الفن ما بعد الحداثي إلى تقديم قواعد جمالية جديدة، وإدراك مختلف للواقع بغض النظر عن البعد التسويقي أو التجاري فيه، فهذا جزء من حركة ما بعد الحداثة، لا تنسحب على الكل بالضرورة، ومن ثم فقد تغيرت جماليات العرض تغيراً جذرياً على يد الفنانين، وأصبح من الصعب تطبيق نظريات الجمال التقليدية على العروض الحديثة واللحظة الحاسمة في هذا التحول هي التغير الذي لحق بعلاقة الموضوع الفني بالذات المبدعة، وتحول المادة إلى حدث أو تجربة، لا يمكن الإمساك بها، ما يفرض الحاجة إلى تطوير نظرية جمالية جديدة، تناسب الشكل الجديد للعرض.