طارق النعمان يرصد زوج 'اللفظ والمعنى' عند عبدالقاهر الجرجاني

الكاتب يرى ان 'اللفظ /المعنى' يمثل زوجا إشكاليا في التراث على نحو عام واللغوي والبلاغي والنقدي على وجه الخصوص وأن هذا الطابع المشكل يرجع إلى مجموعة من الأسباب والعوامل المقترنة بكيفية استخدام طرفي هذا الزوج ومجالات معرفية متعددة استخدم فيها.

يرى د.طارق النعمان في كتابه "اللفظ والمعنى.. بين الأيديولوجيا والتأسيس المعرفي للعلم" أن زوج "اللفظ" / "المعنى" يمثل زوجا إشكاليا في التراث على نحو عام، واللغوي والبلاغي والنقدي على وجه الخصوص، وأن هذا الطابع المشكل يرجع إلى مجموعة من الأسباب والعوامل المقترنة بكيفية استخدام طرفي هذا الزوج وتعدد المجالات المعرفية التي استخدم فيها. بمعنى أن كثرة تداول هذا الزوج لم تتح له أن يصبح زوجا "اصطلاحيا ـ مفهوميا"؛ بحيث يغدو كل طرف من طرفيه دالا على تصور محدد، وظاهرة أو ظواهر بعينها، أو يغدو حضور أي من الطرفين محيلا على الآخر، ومتضمنا حضوره كذلك، ودالا على تصور لازم لعلاقته بالآخر أو أن يكون حضور هذا الزوج بطرفيه مقترنا بتصور محدد لطبيعة العلاقة بينهما، سواء داخل المجالات المعرفية المختلفة أو داخل مجال واحد فحسب.

ويضيف النعمان في كتابه "وهو الأمر الذي لا يتمكن معه الراصد لطبيعة العلاقة بين طرفي هذا الزوج في مجال ما، كالبلاغة والنقد مثر، أن ينطلق إلى هدفه على نحو مباشر، وإنما يفرض عليه بالضرورة ـ إذا أراد ارصده ألا يكون تعميميا ـ الانطلاق من نقطة أخرى، وهي رصد الدلالات المتنوعة التي يتحرك عبرها كل دال من دالي هذا الزوج، والمستويات المختلفة والمتباينة التي يتعالق معها. ولا ينطبق هذا على رصد هذا الزوج لدى بلاغي وناقد كعبدالقاهر الجرجاني فحسب، وإنما على التراث البلاغي والنقدي عامة، كما أنه لا يقتصر على مجالي البلاغة والنقد فقط، وإنما يجاوزهما إلى غيرهما من المجالات المعرفية الأخرى داخل التراث.

ويشير إلى أنه إذا كان يمكن تعليل الحراك الدلالي لهذا الزوج لدى الممثلين الأوائل للتراث في مجالي البلاغة والنقد بما يصاحب نشأة العلوم من صعوبة وعدم تحدد اصطلاحي، فإن اقتران هذه الظاهرة بهذا الزوج في مجالات أخرى، وفي مراحل لاحقة لمرحلة النشأة، يغدو متطلبا لتفسير أشمل. وهو ما لا يمكن إنجازه على نحو كامل بعيدا عن رصد هذا الزوج في المجالات المختلفة مع التنبه لحضور هذه الظاهرة في هذه المجالات.

ويوضح النعمان إن الطابع المشكل لهذا الزوج في الحقل اللغوي ومن ثم البلاغي، لا يرتد في تصوري إلى شيوع هذا الزوج واستخدامه في مجالات متعددة ومتنوعة فحسب، وإنما ـ أيضا ـ إلى كونه يقترن بما هو لغوي وبما ليس لغويا كذلك. إن اللفظ وإن كان مقترنا بما هو لغوي، يجاوز في الوقت ذاته، في استخدامه ودلالته، داخل التراث حدود ما هو لغوي دلالي إلى ما هو "تصويتي سمعي إيقاعي". كما أن المعنى وإن كان لازم الظاهرة اللغوية فإنه يجاوزها إلى غيرها من الظواهر الإدراكية والتواصلية الأخرى، أي يغطي عموم الظاهرة السيميوطيقية ذاتها ذاتها ولا تكف عن إبداع دلالات جديدة داخلها من ناحية ثانية. هذا بالإضافة إلى أن النلازم بين هذا الزوج، إذا ما استخدم على نحو حرفي لا يشمل أو يمثل الظاهرة اللغوية في عمومها أو في مجملها، وإنما يقترن بحالة واحدة من حالاتها فحسب؛ وهي الحالة التصويتية السمعية فقط.

ويتابع "يضاف إلى ما سلف اختلاف أساس يمكن القول إنه يلعب دورا فاعلا في صياغة التصور الخاص بطبيعة العلاقة بين طرفي هذا الزوج، وهو ما أشار إليه فوكو في "الكلمات والأشياء" من تعارض بين الطابع التزامني للتفكير في مقابل الطابع التعاقبي للغة. وهو ما يمكن القول إنه، وإن لم يتم إدركه ـ بالطبع ـ على هذا النحو داخل التراث، كان له تأثيره في صياغة التصور الخاص بالعلاقة بين كل من اللفظ والمعنى على مستوى المرسل ـ هذا فضلا عن اختلاف وضعية هذا الزوج داخل دورة الرسالة اللغوية ذاتها. إن كلا من هذه العوامل قد لعب دورا في إشكال هذا الزوج. هذا بالإضافة إلى العوامل المعرفية والثقافية التي صاغت كيفية عمل وتداول هذا الزوج أو أي من طرفيه داخل التراث".

ويلفت إلى أن موضوع هذه الأطروحة التي يضمها الكتاب هو درس هذا الزوج لدى البلاغي والناقد عبدالقاهر الجرجاني أي في مجالين معرفيين محددين ومتصلين هما البلاغة والنقد ولدى علم من أعلامهما. وقد استقرت الآراء على تمييزه اللافت وخصوصيته الفريدة وإنجازه الخصب/ فإن كلا من تقاطع هذين المجالين مع مجموعة أخرى من المجالات المعرفية؛ مثل أصول الفقه، وعلم الكلام، واللغة، والنحو، والتفسير، وغيرها من المجالات الأخرى، وحضور هذا الزوج في كل كل من المجالين السابقين والمجالات المتقاطعة معهما، وتعدد أبعاد عبدالقاهر بما هو متكلم ونحوي وبلاغي وناقد، كان له دوره البالغ في الكيفية التي مارس بها هذا الزوج حضوره في نص عبدالقاهر من ناحية، وفي صعوبة الامتلاك المعرفي للموضوع من ناحية أخرى. هذا بالإضافة إلى المقارنة اللافتة التي يتضمنها مشروع عبدالقاهر ذاته بين تأسيس العلم، وتأسيس النسق الأيديولوجي الذي ينطلق منه في آن واحد. وهو ما كان له انعكاسه ـ أيضا ـ على كل من كيفية حضور هذا الزوج وكيفية تعامل عبدالقاهر معه وقراءته له في التراث السابق عليه، على حد سواء.

ويقول النعمان أنه إذا كانت قد استقرت كيفية معينة في النظر إلى هذا الزوج داخل التراث والحكم عليه وعلى طبيعة العلاقة بين طرفيه وكونها علاقة انفصال واضح دون استثناء لأحد من ممثلي هذا التراث، بما في ذلك عبدالقاهر، وإذا كانت هذه الكيفية في النظر قد حُكمت في نظرها وحكمها على حد سواء بشروط الإنتاج التاريخي والمعرفي للحظة قراءتها، فإن الاختلاف النسبي للشروط ذاتها بالنسبة للحظة القراءة الراهنة، ما يفرض اختلافا على مستوى أدوات القراءة، ومن ثم على كيفية النظر والحكم على حد سواء. وهو ما يمكن القول معه إن كلا من القراءات السالفة وهذه القراءة هي قراءات نسبية بمعنى ما ـ بالقدر ذاته الذي تتأكد فيه الدلالة التارخية لكل منها. وبهذا المعنى فإنه يمكن القول إن ما تتضمنه هذه القراءة من اختلاف عن القراءات السالفة تدين فيه باختلافها إلى هذه القراءات من حيث هي الشرط الذي أتاح لها الاختلاف. وإذا كان الحكم على العلاقة بين اللفظ والمعنى في التراث بالانفصال، يبدو في منظر هذه القراءة غير دال أو مفسر أو ممثل للمستويات المختلفة التي يقترن بها هذا الزوج على نحو عام أو في التراث عامة أو لدى عبدالقاهر خاصة، فإن هذا الحكم ذاته في حديته قد أتاح للقراءة الراهنة أن تتأمل أدوات إنتاج هذا الحكم وشيوعه هو الذي دفعني بداية إلى اختيار هذا الزوج موضوعا للأطروحة، كما كان في شمول هذا الحكم لكل ممثلي التراث وتجاوزه في القراءات ذاتها مع حكم آخر بتميز عبدالقاهر وتفرده عن سابقيه ولاحقيه دافعا آخر لاختياره دون سواه من البلاغيين والنقاد لقراءة هذا الزوج لديه.

أن حضور هذا الزوج لدى عبدالقاهر لا ينفصل عن مشروعه ومحاولاته للتأسيس المعرفي، استلزم أن يكون الباب الأول من الأطروحة ـ وفقا للنعمان ـ لرصد هذا الفعل التأسيسي وقراءة "قراءة عبدالقاهر للتراث السابق عليه" على مستويين: أول عام يرصد قراءة عبدالقاهر لمشكل الممارسة المعرفية والعوائق المعرفية التي تسيطر على هذه الممارسة، وهو ما يمثل موضوع الفصل الأول: "مشكل العلم". وثان خاص يرصد قراءة عبدالقاهر سيطرة هذا النمط من الممارسة المعرفية في مجالي البلاغة والنقد، على الكيفية التي صيغ بها موضوع العلم وعلاقة الزوج موضوع الأطروحة بهذا النمط ومدى تأثيره على الكيفية التي صاغت التصورات به في التراث، وهو موضوع الفصل الثاني من هذا الباب "موضوع العلم".

ويضيف "هذا ولما كان كل من التأسيس المعرفي لدى عبدالقاهر والإنجاز المتميز له، في كل من مجالي البلاغة، والنقد ليس مقتصرا على قراءة التراث السابق عليه وهدم العوائق المعرفية التي تسيطر عليه وتعرقله وتحول دون تحول هذين المجالين إلى حيز الممارسة المعرفية المنضبطة، وإنما يتجاوز هذا إلى فعل آخر هو بناء نسق من التصورات والإجراءات التي تضع هذين المجالين من الصيغة "ما؟" إلى الصيغة "كيف؟"؛ ونظرا لأن منظوره للزوج موضوع البحث لم يكن منصفلا عن تحوله بهذا السؤال من الصيغة الأولى إلى الصيغة الثانية، وأن محور العمل في الباب الأول انصرف إلى المستوى المعرفي في نصي عبد القادهر: "الأسرار"، و"الدلائل" على أساس تزامني/ فإن الباب الثاني قد انصب على رصد تحولات السؤال والمشكلات التي صاحبت الجواب في كل من النصين، وعلاقة الزوج موضوع البحث بهذا. فجاء الفصل الأول ليرصد سؤال العلم بين النصين السالفين والبعد التعاقبي في حضور المستوى المعرفي لدى عبدالقاهر من : "الأسرار"، و"الدلائل"، والعلاقة بين صورة حضور السؤال في كل منهما وصورة حضور الزوج موضوع البحث مركزا على حضور هذا الزوج في : "الأسرار".

وأما الفصل الثاني من هذا الباب فقد أتى لرصد الحراك الدلالي لهذا الزوج مركزا على "الدلائل" ومحاولا تفسير دلالة دلالة هذه الظاهرة في هذا النص. وأما الفصل الثالث منه فقد انصب على الشق الأول من السؤال "كيف؟" وهو "كيف تتشكل المزية؟" راصدا تصور عبدالقاهر لعلاقة الزوج موضوع البحث على مستوى المنشيء. أما الفصل الرابع والأخير فقد انصب على الشق الثاني من السؤال وهو "كيف تتجلى المزية؟" راصدا ما أنجزه عبدالقاهر من تصورات ومفاهيم لرصد المزية في تجليها، مركزا على المركزي في هذه التصورات.