"طوفان الأقصى" وفق المنظور الجيوسياسي لإيران

عملية "طوفان الأقصى" جاءت في توقيت غايته خلط أوراق التسويات الإقليمية القادمة؛ تسويات قد لا تكون لإيران أو حماس أو عموم المحور أي مكان فيها. سنوات الاستثمار بالقضية الفلسطينية قد تذهب دون أي مكتسبات.

مع بداية عملية طوفان الأقصى بدا واضحاً حذر الإدارة الأميركية ومثلها إسرائيل، لجهة عدم اتهام إيران بالضلوع في التخطيط لتلك العملية بشكل مباشر، رغم إدراكهما أن طهران لها اليد الطولى في تلك العملية. فالادارة الأميركية والقيادة الاسرائيلية وبحسب زعمهما لم يلمسا دليلاً واضحاً على وقوف إيران وراء العملية العسكرية التي أربكت إسرائيل، مع إدراك الأخيرة الكامل بأنها ستستغرق وقتاً طويلاً لمعالجة تداعيات ونتائج تلك العملية.

الموقفان الأميركي والاسرائيلي جاءا ضمن إطار عدم الرغبة بتوسيع دائرة الإشتباك، فتوجيه الإتهام لإيران مباشرة يعني انجرار أميركي وإسرائيلي نحو الانتقال إلى مستويات جديدة من التعامل مع إيران، وبمعنى ثانٍ التوجه إلى حرب إقليمية واسعة، الأمر الذي يعني دخول المنطقة في مسار ناري مُبهم ومن الصعب التحكم بمآلاته وسيناريوهاته وكرة النار الناشئة جراء هذا الاشتباك، ما يُفسر جلياً الرغبات الاميركية والاسرائيلية بتحييد الساحتين السورية واللبنانية عن مسار عملية طوفان الاقصى، والاكتفاء بتوجيه رسائل تحذيرية، ليس خوفاً من دمشق و"حزب الله"، بل منعاً لتصعيد يبدل مسارات التطبيع العربي مع اسرائيل أولاً، ويُجبر الإدارة الأميركية على تبني خيارات في غير موضعها، لاسيما أن الانتخابات الأميركية باتت قريبة، والأهم أن واشنطن لا ترغب في الوقت الحالي في بلورة استراتيجية اشتباك جديدة مع روسيا في المنطقة ريثما تتضح معالم الخارطة الأوكرانية.

التقديرات الاسرائيلية لنتائج عملية طوفان الأقصى ترجمها رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، بتأكيده على أن هذه الجولة غير المسبوقة ستؤدي إلى شرق أوسط جديد، لكن في سياق التحولات الاقليمية ومعطياتها أيضاً لإيران تقديرات ترجمتها القيادة الإيرانية على لسان خامنئي، الذي ذهب إلى نفس النتيجة المتوقعة إسرائيلياً جراء عملية طوفان الأقصى، لكن مع فروقات في الرؤى ووفق المنظور الاستراتيجي لإيران. يقول خامنئي أنه "بعد السابع من تشرين الأول فإن الكيان الصهيوني لم يعد النظام الصهيوني السابق والضربة التي تلقاها لا يمكن تعويضها بسهولة"، واصفاً ما حصل بأنه "هزيمة غير قابلة للترميم".

لا ينفي عاقلٌ بأن عملية طوفان الأقصى لم تكن نتيجة قرار مستقل من القيادة العسكرية لحركة "حماس"، بل جاءت بعد مشاورات طويلة مع المحور الذي تنتمي إليه حماس، وبذات التوقيت فإن هذه العملية لم تكن منفصلة جوهراً ومضموناً عن التطورات السياسية في المنطقة لاسيما عملية التسويات الاقليمية والتفاهمات طويلة الأمد، لرسم مستقبل السلام في المنطقة والتي توجتها المصالحة الإيرانية السعودية، والتي سترسم مشهداً سياسياً إقليمياً جديداً مع معادلات ناظمة له. وهنا لا يخفى على أحد أن القيادتين السعودية والإيرانية تحاولان ضبط خياراتهما للوصول إلى قيادة المنطقة سياسياً والتأثير على قراراتها.

القيادة الايرانية وفي معرض نفيها لأي دور في "طوفان الاقصى" إنما تُهندس مساراً سياسياً لتدوير المواقف، سواء مع الإدارة الأميركية أو السعودية، لاسيما أن الاخيرة تسير وفق معادلة إقليمية متدرجة وبرعاية أميركية، للوصول إلى تفاهم سعودي اسرائيلي تنظر اليه الإدارة الأميركية كوسيلة لنقل المنطقة إلى مرحلة جديدة تزيد من خلالها من هيمنتها السياسية على القرار الإقليمي. لكن يبدو أن القرار الايراني جاء صادماً ومؤخراً للخطوات الاميركية عبر فتح جبهة غزة خوفاً بأن تذهب التطورات الأميركية والاسرائيلية والسعودية إلى مكان لا يكون فيه لإيران أي دور، الأمر الذي تراه إيران تهديداً لموقعها الجيوسياسي ومؤطرا لنفوذها الاقليمي الذي أسسته على مدى عقود.

في المقابل فإن "حماس" أيضاً افتتحت خرائطها العسكرية بموافقة المحور بما يتناسب مع الخرائط السياسية التي تُهندس إقليمياً، خاصة أن قيادة "حماس" استشعرت أن أي تسوية على مستوى الاقليم قد تكون على حسابها ولابد في هذا الإطار من حجز مقعداً لها على خارطة التسويات الكبرى، وأن تكون ضمن أي حسابات إقليمية مستقبلية، وبذلك فإن طهران وحماس يحملان ذات المصلحة، وعليه فان أي تسوية فلسطينية قادمة على أعتاب التطبيع الإسرائيلي السعودي يُخشى أن تُحييد طهران وحماس من قاموسها، ما يعني في العمق خروجاً من المعادلات الإقليمية وانهياراً لمشروع طالما حاولت إيران وعموم محورها تكريسه لتكون اللاعب الاقليمي الذي لا تتم دونه التسويات الإقليمية.

إيران ووفق منظورها الجيوسياسي لا تعارض التسويات الاقليمية بمفهومها العام، لكنها ترفض أي تسوية إقليمية دون أن تُحقق لها أهدافها الخاصة، ودون أن يكون المقعد الإيراني متقدماً في الخارطة الإقليمية الجديدة، وبالتالي فإن الرفض الإيراني لأي اتفاقيات عربية اسرائيلية تأتي من المخاوف لجهة استهداف إيران من أراضي جيرانها الاقليميين، وهذا جوهر الإعتراض الايراني على اتفاقية التطبيع الإماراتي الإسرائيلي، والذي حاولت إيران الالتفاف عليه عبر هندسة علاقات مستقرة مع الامارات تجنباً لأي احتمالات تؤرق طهران، واليوم مع الحديث عن إمكانية تحقيق سلام سعودي إسرائيلي ثمة ضغوط في الميزان الإيراني ترغب طهران بموازنتها ما بين موقعها الاقليمي والخشية من خسارة مكتسباتها التي حُققت في السنوات الأخيرة.

مُضافاً إلى ما سبق، فإن إيران وربطاً بهواجسها السابقة، فإن التعامل مع أي اتفاق سعودي اسرائيلي قادم، لن يكون فقط حيال تأثيراته الإقليمية، بل الخشية الإيرانية أعمق من ذلك، وتتمثل في الرؤية السعودية لحل الصراع الفلسطيني الاسرائيلي عبر المبادرة العربية، الأمر الذي يعني إبعاد إيران عن القضية الفلسطينية وعن جُل عناوين الصراع الفلسطيني الاسرائيلي، ويعطي للسعودية دفة قيادة هذا الصراع وفق أسس تختلف في الجوهر والمضمون عن الأسس الإيرانية، الأمر الذي يُطيح بإستثمارات السياسة الإيرانية في المنطقة.

عملية "طوفان الأقصى" جاءت في توقيت غايته خلط أوراق التسويات الإقليمية القادمة. هي تسويات قد لا تكون لإيران أو حماس أو عموم المحور أي مكان فيه، ما يعني أن سنوات الإستثمار بالقضية الفلسطينية قد تذهب دون أي مكتسبات، وضمن هذا وذاك، فانه من الضروري إيرانياً تعطيل أي تسوية قادمة ريثما تُرتب الأولويات من جديد، ويُفتح باباً إقليمياً للتسويات من البوابة الفلسطينية. كل ذلك يؤكد بأن المواجهة الحقيقية تبدأ بواشنطن وطهران وتمر بالوكلاء في مختلف مسارح الإقليم، لتبقى جُل السيناريوهات مفتوحة عسكرياً وسياسياً.