طوفان الاقصى يبعثر اوراق المنطقة

لم يكن الطوفان الفلسطيني مجرد عملية عسكرية ضخمة ومباغتة، وانما أرسى الفلسطينيون خلالها قواعد جديدة لشكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.

ما حدث لا يصدق، لحظة مفزعة على جبهات متعددة. الفلسطينيون يغيرون المعادلة برمشة عين، والحكومات المتساقطة تحت بريق التطبيع والسلام الوهمي أسقط من بين يديها، والكيان الصهيوني لم يدمر عسكريا فقط، ولم تتم اهانة جيشه وتمريغ رأسه بالتراب فحسب، وإنما تدمر بشكل كامل معنويا واحترقت انتصاراته وانجازاته بسواعد المقاومة وضرباتهم الموجعة.

هذه باختصار الصورة التي رسمتها المقاومة حين شنت كتائب عزالدين القسام، صباح يوم السبت 7 أكتوبر 2023، هجوماً غير مسبوق على إسرائيل من الجو والبحر والبر، وتمكن المجاهدون، بما يشبه الحلم، من التسلل إلى المستوطنات في الجنوب والسيطرة على 21 موقعا إسرائيليا لفترة طويلة.

أسفر الهجوم حسب صحيفة معاريف الاسرائيلية عن قرابة 1000 قتيل، بالإضافة إلى الأسرى، وتم نقل ما يقارب 100 جندي ومدني إسرائيلي إلى داخل حدود غزة، في عملية عسكرية وفنية وصفها المحللون الإسرائيليون أنفسهم بأنها "نوعية" وهي كذلك.

ثمة عوامل قوة عديدة تضاف الى العملية العسكرية الفلسطينية التي قادتها حماس واشتركت فيها الفصائل الفلسطينية المختلفة:

1- النوعية: لم تواجه إسرائيل معركة بهذه الحجم والشراسة والدقة من قبل، فقد حققت المقاومة انجازا عسكريا غير مسبوق في تاريخ الصراع العربي الاسرائيلي، بحيث يمكن أن يقال أن ما بعد الطوفان لا يشبه بتاتا ما قبله، وان اسرائيل لم تعد ذلك الكيان المحصن عسكريا والمتطور تقنيا، فقد تلاعبت المقاومة بالجدار التقني والقبة الذكية.

2- المكان: في جميع الحروب التي اندلعت بين الجيوش العربية وإسرائيل كانت الحروب تجري على أراض خارج كيان اسرائيل، فالداخل الاسرائيلي دوما هو خارج الحروب والنزاعات، هذه المرة، استهدفت المقاومة البلدات والمستوطنات الإسرائيلية مباشرة، ونقلت المعركة الى الداخل الاسرائيلي، واصبحت القرى المحصنة ساحة مفتوحة للحرب والمواجهة.

3- التنظيم: المتابع لسلسلة العمليات التي شنتها المقاومة الفلسطينية باختلاف فصائلها منذ إعلان دولة إسرائيل عام 1948 يلاحظ انها كانت تتسم بردة الفعل وحرب الشوارع، لاسباب متعددة ابرزها فارق القوة بين امكانات المقاومة وترسانة العدو الاسرائيلي، لكن في "طوفان الأقصى" تبدلت الصورة تماما، حيث شنت المقاومة هجوما عالي التنظيم، ومحكم بشكل مذهل، فقد قاتلت المقاومة كجيش نظامي وليس كميليشيا مسلحة.

4- التحرير: على عكس التحليلات الغربية والعربية التي تضع عملية "طوفان الأقصى" على رف العمليات العسكرية المؤقتة والتي تنتهي بتدمير قطاع غزة وقتل الشعب الفلسطيني، فان الفلسطينيين يقولون انها ليست سوى البداية، وان القادم ربما يكون مفاجئا بشكل مفجع للإسرائيليين، وتؤخذ مثل هذه التصريحات اليوم على محمل الجد، فما جرى فجر السبت يضع تصريحات ووعود قادة المقاومة في خانة الاهتمام والتصديق.

من المؤكد ان القادم سيكون مختلفا بكل المقاييس. فحتى لو استمرت اسرائيل وترسانتها العسكرية في اعتداءاتها على الشعب الاعزل، واعلنت حرب ابادة ضد الشعب الفلسطينى، فانها تسير نحو الهزيمة بشكل واضح، ولن تتمكن من استعادة هيبتها التي كسرها المناضلون ووطأتها اقدام المقاومة في لحظات خاطفة، يمكن أن تتكرر بصور واوقات أخرى.

 لقد سعت اسرائيل بكل جهدها خلال السنوات الماضية الى ان تقنع المحيط العربي انها دولة الامر الواقع، وان بقاءها حتمي ولا بد من التعامل معها وفقا لمنظورات الواقعية السياسية، ولم تدخر الولايات المتحدة جهدا في اقناع او ارغام دول المنطقة على صعود قطار التطبيع بوصفه بوابة الاستقرار السياسي الوحيدة.

هذه المساعي والجهود والخطوات التي انجز بعضها على ارض الواقع خلال السنوات الاخيرة انهارت في دقائق معدودة، واعادت المقاومة الصراع العربي الاسرائيلي الى المربع الاول، وعملت كشف تسلل للأنظمة العربية، واصبح خروج الكيان الصهيوني من المنطقة مسألة وقت ليس الا.

فإسرائيل لا تقوى على تحمل عمليات نوعية من هذا القبيل. ووفقا لمعطيات التطور العسكري واللوجستي للمقاومة فان العمليات القادمة ستكون اسوأ بكثير على الكيان الغاصب، وهو ما يؤكد ان عمر الكيان الصهيوني اصبح معدودا، وسوف تشهد السنوات القريبة جدا تفكك هذا الكيان للابد وعودة الحق الفلسطيني على كامل التراب الفلسطيني.

لم يكن الطوفان الفلسطيني مجرد عملية عسكرية ضخمة ومباغتة، وانما أرسى الفلسطينيون خلالها قواعد جديدة لشكل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي وأوجد ما يسميه قادة حماس "توازن الرعب" بين الطرفين. وهو يعني باختصار أن مستقبل التطبيع لم يعد مفروشا بالورود.

 وما يجري على الارض الان، هو زمن مختلف بكل المقاييس، ويجب على كل الاطراف في المنطقة وخارجها قراءته بدقة وتمهل قبل اتخاذ اي خطوة تعود عليهم بالخيبات والنكسات، لاسيما بالنسبة لمشروع التطبيع الذي يلاقي رفضا شعبيا ويشكل فجوة خطرة بين الشعوب العربية وحكوماتها.

لذا من المتوقع على خلفية "طوفان الأقصى" ان تعيد الدول العربية التي تسابقت للاعلان عن التطبيع مع الكيان الصهيوني النظر في خطواتها القادمة، ومن المرجح ان تدخل مشاريع التطبيع المعلنة في فتور قادم، وسلام بارد، وهو امر مستحق لا سيما ان القادم هو المزيد من الصدام مع المشروع الصهيوني.

باختصار الحرب اليوم تدور بين جيش منظم لكيان مهزوم نفسيا وسياسيا، وينطلق من ادعاءات زائفة، لم يعد قادر على تسويقها، وبين شعب ليس لديه ما يخسره، وكله يقين بأنه هو صاحب الحق والارض، وهو اليوم كما هو بالأمس لديه كامل الاستعداد للتضحية والصمود الى النفس الأخير، حيث ما ظلت أرض فلسطين تتكلم عربي.