في ذكرى رحيل طاغور عظيم الهند

المنجز الأدبي لطاغور يتفرد بكونه تجربة تسعى لخير الإنسانية جمعاء مع التزامه الأخلاقي في تبني قضايا وطنه الذي تقاسمته الأديان والمذاهب والقوميات.

    في استعادة ذكرى العظماء من البشر، مثل شاعر الهند الكبير رابندرانات طاغور الذي تمرُّ ذكرى وفاته في الثامن من أغسطس من عام 1941، حاجةٌ عميقةُ الدلالة ثقافيًّا، وهذه الدلالة قد اختصرها لنا أستاذنا الدكتور عبد العظيم السلطاني في مقالةٍ له منشورة بعنوان استذكار الرموز حقٌ لهم ونفعٌ لنا بقوله "لأنّ ثقافة الاستذكار تلبي استحقاقات أخلاقيّة لأولئك الكبار الذين قدّموا للمجتمع ما ينفع ويثري قبل أن يرحلوا"، ولأن طاغور يمثّل رمزًا لا يختصُّ بالهند فحسب، على الرغم من أنّ نتاجاته في الشعر والرواية والمسرح والقصة وحتى الرسم والتصوير والموسيقى، كانت عن الهند وما فيها من أحداث ومشاكل اجتماعية أو سياسية أو أخلاقية، لكنها من وجهٍ آخر، تمثّل مشاكل الإنسان وقضاياه، ولأنَّ الحكمة كما قيل "ضالة المؤمن" بل هي –بنظرة موضوعية- ضالّة الإنسان الذي يحترم عقله، وينشُد المعرفةَ أيًّا كان انتماؤها، فالغايةُ أسمى من التخندق وراء الأنساق الثقافية أو الدينية أو الاجتماعية. ولهذا كان استذكار طاغور عبر هذا المنطلق، ما يُلبّي هذه الحاجة، التي بمقتضاها، تنكشف للأجيال ما للسابقين من مُنجزٍ يستحق الاحترام والإشادة، وما ينبغي عليهم من إشاعة تلك الأفكار في مجتمعاتهم؛ لما فيه من دروس أخلاقية كبيرة تعمل على إزالة كثير من العقبات أمام تحضّر الأمم، والارتقاء بوعي أبنائها إلى ما ينبغي أنْ يكون عليه الإنسان بما لديه من عقلٍ يستنير به في حياته.
    في الوقوف على ولادته، تجده وهو المولود في وسط أسرة عريقة في مكانتها الدينية والاجتماعية في مدينة كالكتّا، والميسورة مادّيًا إلى حدٍّ بعيد، لينشغل بما انشغلَ به والده وهو أحد أعلام نِحلة اليوبانيشاد من توجّهٍ صوفيٍّ بحت، على الرغم من تأثّرهِ بألحان ما كان يترنّمه الوالد من أناشيد، ظهرتْ فيما بعد لتُسبغَ قصائدَهُ تلك النزعةَ الصوفيّة، فيما يرسمه لنا من قصائد تغنّت بالطبيعة واعتناءٍ دقيق بتفاصيلها، ساعده على ذلك رعايةٌ خصها به الوالد، حين صحبه وهو فتىً صغير في رحلة إلى جبال الهملايا، ما أفعمتْ مخيّلته بالمشاهد المذهلة للطبيعة هناك، وعبّأت ذاكرته بالصور التي لا يحلم ذهن إنسان بتخيّلها، أتاحها لنا فيما بعد في مجموعاته الشعرية "أغاني المساء" الذي تبعه فيما بعد بـ"أغاني الصباح" الذي تميّز على سابقه بمسحته الرمزية في مناغاة الطبيعة، ثم "القارب الذهبي" وانتهاءً بديوانه الرائع "جيتنجالي" الذي كرّسه لحزنه الشفيف بعد أنْ توفّت زوجته وهي في ريعان الشباب، بل كان له توجّهٌ آخر ظهر فيما كتبه نثرًا من قصص وروايات، فضلاً عن مقالاته ومحاضراته، تمثّل بنقده ظواهر اجتماعية خطيرة في مجتمعه، انعكس بعضُها على ما وقع عليه منها، فاستجاب لها قسرًا بحكم الانقياد إلى أعراف المجتمع، ففي الثانية والعشرين من عمره، تزوّج فتاة صغيرة لا تتجاوز اثني عشرة ربيعًا، لتلبية رغبة الأسرة، وليس له أو للفتاة أن يرفضا تقاليد ذلك المجتمع، ما دفعه إلى انتقاد هذه العادة البالية في مقالاته بصورة عامة، وفي رواية "حطام السفينة" بصورة خاصة.

كان مستحيلا عليّ أن أقبل دينا فقط لأن آبائي كانوا به يؤمنون، لقد نشأ عقلي في جو من الانطلاق والتحرر

أما في روايته العظيمة "غورا" فتُعد من أهم الروايات التي كرّسها لاستعراض جملة من مشاكل المجتمع الهندي الداخلي وبيان تخلفه من جهة، ومقاومة الاستعمار البريطاني من جهة أخرى، ما ينمّ للقارئ عن قناعته بأنَّ الأدب لديه لا ينفصل عن حياة الشعب، ساعده في تلك الرؤية الواقعية لمجتمعه، قُربُه من الطبقات المسحوقة من أبناء بلده، إذ كان بحكم تواجده شبه الدائم في مركب قد أعدّه للسكن يجوب به نهر الغانج -أحد أكبر الأنهار في شبه القارة الهندية، الذي يعدّه الهندوس أحد الأنهار المقدّسة، ويحجُّون إليه في طقوسٍ معروفة لديهم-  فيطّلع على أوضاعهم المعيشية المتردّية، وتخلفهم الاجتماعي والثقافي، ما جعلها ضمن أولويات الموضوعات التي يطرحها في رواياته وقصصه، وكان لطاغور أنْ يلتفت إلى الحركة الدينية الإصلاحية "البراهمو - ساماج" التي ورثها من جده وأبيه، راصدًا ما وقعت فيه من انحرافات أبعدتها عن مقاصدها المُعلنة، وكان التعصب الديني أبرز تلك الانحرافات التي وضعها طاغور على مشرحة النقد في روايته، وللتعصب في هذه الحركة مظاهر متنوِّعة، منها ما له علاقة بالارتباط الاجتماعي المتمثِّل بالزواج، إذ كان أعضاء هذه الحركة يرفضون الزواج من الهندوسيين، ما يعكس انعزالهم ورفضهم الآخر، الأمر الذي وظّفه لنا في الرواية برفض الطائفة زواج "لوليتا" ابنة "باريش" المنتمي إلى هذه الحركة، من "بينوي" الهندوسي غير المنتمي لهذه الحركة، وإعلام والدها بفصله من الحركة، لكنه أصرّ على موافقته زواج ابنته لذلك الشاب، وفي هذا الموقف ينتصر طاغور لكسر قيود التبعية للحركة التي ترعرع في أحضانها حين كان صغيرًا، بتصويره هذا الموقف لـ"باريش" الرافض لما يُملى عليه من الحركة. ولا يخفى أن هذا المشهد من الرواية يعكس لنا موقف طاغور نفسه من الحركة، وليس قوله: "إنني لم أصل إلى ديني الذي أعتنقه عن طريق القبول المستسلم فقد وُلدتُ في أسرةٍ كان أفرادُها رُوّادًا لديانة كبرى في بلادي، ولكن وفقًا لما جُبِلتُ عليه من ميولٍ فطريةٍ كان مستحيلاً عليَّ أن أقبلَ دينًا لا لشيء إلا لأنَّ آبائي كانوا به يُؤمنون، لقد نشأ عقلي في جوٍّ من الانطلاق والتحرر".
    وحين كان الهمّ الذي يُحرِّك طاغور في هذه الرواية، يحوم حول هويةٍ للأمة الهندية، كان لزامًا عليه أنْ يخوض حربًا لا هوادة فيها مع كلِّ توجّهٍ يرمي إلى مسخ هذه الهوية، فكان يرى أنّ العدو الأكبر للهند موجودٌ في الهند نفسها، يتنفّس عبر الخرافات العمياء وتأليه التقاليد والعادات المتوارثة جيلاً بعد جيل، تلك التي لا يترشّح منها غير الجهل والتخلّف، ما جعله في أحد مقالاته يهاجم النظام الطائفي في المجتمع الهندي، كاشفًا عن أثره الجسيم في تحطيم روح المواطنة، وتعطيل العقد الاجتماعي، وقال في ذلك عنها: "نهضة الشعب الهندي من جديد في رأيي تعتمد مباشرةً ولعلها تعتمدُ كليًّا على إزالة هذه الحالة"، وهذا الوعي نتلمّسه بوضوح في روايته، حين يقرّ بأنَّ الإنسان مفطورٌ على حبّ وطنه، كما يقرّ بأن العمل الأسمى الوحيد هو العمل لمصلحة البلاد، ويدعو للمواطنةِ في وحدة المجتمع الهندي، وفي وصفه لشخصيته الرئيسة "غورا" نجد أفعاله تُترجم لنا ذلك السعي الجاد لبطله في التقرّب من جميع أبناء الهند، من ذلك قوله -على لسان السارد- واصفًا إصراره على الاستحمام من نهر تريبني وليس الغانج: "السبب الذي دعاه أنْ يُقرر الاستحمام في تريبني هو أنه ستكون هناك حشود من الحجّاج، وغورا ينتهز كل المناسبات كفُرصٍ للتحرّر من كراهيته وأحكامه السلفية، وكي يشعر باتّحاده مع أبناء بلده، وكي يتمكّنَ من أنْ يقول لهم من كلِّ قلبه: أنا لكم وأنتم لي".

العدو الأكبر للهند موجود في الهند نفسها، يتنفّس عبر الخرافات العمياء وتأليه التقاليد

وهكذا تتوالى أحداث الرواية، معبّرةً عن همومٍ عاصرها طاغور وعانى من عقابيلها المُرهقة، في سياق أدبيٍّ ولغةٍ ثرّة لم تخرج عن طور الفنّ الرفيع لكتابة الرواية، مُعبّرًا في كل ذلك عن التزامه الأخلاقي في تبنّي قضايا وطنه الذي تقاسمته الأديان والمذاهب والقوميات، ساعيًا من وراء ذلك كله لأن يكون أحد الساعين في ردم المسافات المتوهّمة بين أبناء الوطن الواحد، تلك التي أسهمت حينها في ترسيخ دعائم المستعمر، الذي ما بقي طيلة قرون في الهند لولا إشغال السكّان هنالك بهذه العصبيات. 
وبهذا نؤشّر فرادة التجربة الأدبية التي مثّلها طاغور؛ لكونها تجربةً إنسانية تسعى لخير الإنسانية، وجعلها أكثر عقلانيةً وانتماءً لأوطانها، ما يعني لنا الكثير في استعادة ذكرهم واستحضار منجزهم، مثلما قال الدكتور السلطاني في مقالته التي أشرنا آنفًا إليها، أنّ "استذكار هؤلاء واجبٌ علينا نحن الذين نعيش الآن، وهو في الوقت نفسه حقٌ لهم ونفعٌ لنا. فهو ينفع الذين لم يطّلعوا على نتاجهم فيكون الاستذكار سببا لينظروا فيه، حين يفتح أبوابا على تلك الشخصيات وما أنجزت، فيكون بذلك فرصة وتحفيزا لمن لا يعرفهم ليقرأ ويعرف" وليس بِدعًا أنْ يكون طاغور الشرقيّ الأوّل ممّن حاز جائزة نوبل للآداب عام 1913 بعد أنْ تُرجِمت أحد آثاره في الشعر إلى الانكليزية، فنال منجزه تقدير العالم، وهو استحقاقٌ له بلا منازع.