لعنة الجغرافية.. سوريا في دوامة اللاحلول

لا تملك دمشق ما تُقدمه للقوى الفاعلة والمؤثرة في جغرافيتها، وهي تنتظر ما يتفق عليه أصحاب القرار في موسكو وواشنطن.

واقع الحال يؤكد بأن الحرب السورية أفقدت دمشق الكثير من تأثيرها وأدوارها على مُختلف الصُعد، الأمر الذي أجبر سوريا على التراجع خطوات كثيرة، واتخاذ موقف المدافع، لتجنب المزيد من الأضرار جراء تداعيات الحرب. فما تشهده جغرافية الشمال السوري لا يمكن النظر إليه بتجرد، أو بمعزل عن حالة الكباش الإقليمي والدولي في سوريا، خاصة أن ما يحدث بين روسيا والولايات المتحدة في الشمال السوري، وكذا حالة الجفاف السياسي التي تعيشها دمشق بعد فيضان دبلوماسي كان مؤقتاً، وبنتائج صفرية حيال سوريا وأزماتها السياسية والاقتصادية.

حالة التهدئة والتوافقات المؤقتة التي عاشتها دمشق، كان لا بد أن يكون لها ارتدادات على مضمون الملف السوري، خاصة أن هذا الملف وما يحتويه من تعقيدات وتشابكات، لا يمكن حله عبر توافق عربي خليجي وفقط، بل ثمة علاقات أعمق وحلول أدق، تُهندسها حالة التوافق أو التشابك الروسي الأميركي، سواء في سوريا أو غيرها من بُقع التوتر.

مؤخراً، وضمن إطاري الكباش السياسي والعسكري المدروس بدقة، برزت في أجواء شمال شرق سوريا، توترات عسكرية أميركية روسية، حيث اعترضت طائرات روسية حربية ثلاث طائرات أميركية من دون طيار، في أثناء استهداف الأخيرة لأهداف تابعة لداعش، بحسب بيانات عسكرية أميركية. إضافة لذلك، فإن روسيا أيضاً استخدمت حق النقض في مجلس الأمن، معترضة على تمديد مهلة السماح بإدخال المساعدات إلى سوريا لمدة عام، في وقت أصرت فيه روسيا على تمديدها لستة أشهر لا أكثر، الأمر الذي أثار حفيظة الولايات المتحدة، ونتيجة لذلك، يبدو واضحاً أن روسيا والولايات المتحدة يحاولون ما يُمكن تسميته بتصفية حساباتهما، وذلك إنطلاقاً من الجغرافية السورية.

يؤكد إدراك كل من روسيا والولايات المتحدة لحدود مصالحهما في الجغرافية السورية، ومنع التطورات من الانفلات بينهما، إن الهجوم الذي تعرضت له الطائرات الأميركية ورغم خطورته، إلا أنه كان هجوماً مُخططاً له بدقه، ولن يتجاوز سقف المناورات أو المناوشات المحدودة، وهذا ما تؤكده طبيعة الهجوم، إذ تم استهداف حركة الطائرات ومسارها، ولم يتم استهدافها بشكل مباشر، بما لا يتجاوز الخط الأميركي الأحمر في مثل تلك الحوادث.

في المقابل فإن الفيتو الروسي في مجلس الأمن، لا يعدو عن كونه محاولة روسية لحصر المساعدات وتمرير طريقها عبر دمشق، للتأكيد على سيادة سوريا على أراضيها، لكن وبوجود العوائق الأميركية، المرتبطة بمصالح واشنطن في الجغرافية السورية، فإن تأكيد هذه السيادة، يبدو أنه هدف روسي لن يتم تحقيقه، ليكون بذلك جوهر الفيتو الروسي، هو تقصير مدة التمديد المطلوبة، وبالتالي الحصول على كرت تفاوضي كل 6 أشهر بدل من كل سنة، وهو جزء من الكباش السياسي بين الروس والأميركيين.

والأهم أن روسيا تحاول الالتفاف على ما أُشيع مؤخراً، لجهة تضاؤل الإهتمام الروسي بالملف السوري، بعد الحرب الروسية الأوكرانية، وتعثر روسيا في تحقيق جُملة أهدافها المُعلنة في بداية الحرب، وعليه جاء الفيتو الروسي ليكون بمثابة إثبات الحضور لا أكثر. كما أن استخدام حق النقض، لن يُكلف روسيا أي ثمن، ومن خلاله توحي باهتمامها بالملف السوري، وتُبقي على مقعدها كـ لاعب أساسي في الجغرافية السورية.

تركيا لم تكن بعيدة عن معادلة إغراق سوريا في دوامة مصالحها، حيث أن رغبات أنقرة بإعادة علاقتها مع دمشق، لم تعد بذات الزخم إبان الانتخابات الرئاسية في تركيا. حينها حاولت تركيا القيام بخطوات سريعة بإتجاه سوريا، لكن دون التنبه للعواقب الإستراتيجية التي ستُصيبها أميركياً، لتغدو اليوم الاندفاعة التركية نحو سوريا مُحددة ضمن نقاط على رأسها رفض أنقرة فكرة الإنسحاب من سوريا، والضغط للقبول بالواقع الجغرافي الراهن.

السعودية بدورها لم تكن بأفضل حال من تركيا، لجهة إعادة العلاقات مع دمشق، فـ السعودية أيضاً بردت إندفاعتها تُجاه سوريا، الأمر الذي تعكسه حالة الإعلام السعودي، بوصفه مسار إعادة العلاقات بين الرياض ودمشق، بالشائك والمعقد، والذي يحتاج إلى وقت أطول لتعبيده بالتوافقات السياسية بعيدة المدى.

في الجانب الآخر، يبدو أن الولايات المتحدة، قد اعتمدت سياسات مغايرة لتلك التي أوهمت الجميع بأن واشنطن ترغب بمغادرة المنطقة، لكن في الواقع، فإن الولايات المتحدة أعادت تعزيز حضورها العسكري في المنطقة، فقد أعلنت قيادة سلاح الجو الأميركي أن مجموعة من طائرات F-35 التابعة للقوات الجوية الأميركية، وصلت إلى قطر والأردن، كما عملت واشنطن على تكثيف مناوراتها العسكرية عند مضيق هرمز، في الوقت الذي ازداد نشاط البحرية الإيرانية في ذات المضيق.

لا تملك دمشق ما تُقدمه للقوى الفاعلة والمؤثرة في جغرافيتها، وهي تنتظر ما يتفق عليه أصحاب القرار في موسكو وواشنطن. فمن عادة المفاوضات السياسية أن تمر بفترات ارتفاع المنسوب التفاوضي عبر التحركات والمناورات العسكرية المتقدمة، وهو ما كان. فالولايات المتحدة وروسيا وكذلك إيران وتركيا، يدركون بأنهم بحاجة لترسيم الحدود السياسية بينهما، غير أنهم لم يتفقوا عليها بعد، وهو ما تلعب التحركات الأخيرة في سوريا، دوراً في إثبات الوجود والحدود لكل طرف.

إن فحص جُل الخيارات الموجودة على الطاولة السورية، تُوحي بأنه لم يعد هناك حل واحد كافٍ لسوريا، كما أنه لم تعد هناك وصفة سحرية تقلب الطاولة بين ليلة وضحاها. الزمن بات عاملاً ضرورياً، وكذلك التكامل بين المسارات والحلول. لذلك، باتت فكرة اجتراح حل بمسارين هي الأكثر قبولاً: مسار دولي - إقليمي يتم عبر عقد مؤتمر دولي بمشاركة اللاعبين للاتفاق على عناوين الحل السوري، وبرعاية أميركية روسية مباشرة، ومسار سوري - سوري لتوفير شرعية وقبول للحل المرتجى.

لكن تبقى المشكلة هي أن ساعة السوريين تنبض على وقع المعاناة وتفاقمها، وساعة اللاعبين خاصة أميركا وروسيا، مضبوطة على إيقاع الصبر الاستراتيجي المرتبط بملفات أخرى، بانتظار أن يرن هاتف البيت الأبيض أو الكرملين، يتضمن عرضاً لحوار جدي.