مفاتيح الابواب الموصدة بين بغداد وأنقرة

لم يكن متوقعا أن تحدث زيارة السوداني لتركيا تحولات وانقلابات كبرى، لكنها ربما شكلت منعطفا مهما في المسار المتعثر والمرتبك للعلاقات العراقية-التركية.

على امتداد عقدين من الزمن، كانت لغة التصعيد والتأزيم بين العراق وتركيا هي السائدة والهيمنة على مجمل مسيرة العلاقات بين البلدين المحكومة بالعديد من العقد والاشكاليات التأريخية التي تمتد بعض جذورها إلى أواخر عهد الدولة العثمانية، وما أفرزته الحرب العالمية الأولى من نتائج ومعطيات ومخرجات، جعلت العراق يتحول من سطوة الباب العالي في اسطنبول الى سطوة الإنجليز في لندن!

ربما يرى الكثيرون في ان الملفات الخلافية الشائكة والمتداخلة بين بغداد وأنقرة، ترتبط بشكل أو بآخر بأحداث ووقائع سياسية "جديدة" بعيدة كل البعد عن احداث ووقائع الماضي. وقد يبدو ذلك صحيحا وواقعيا بالنسبة لملفات من قبيل ملف حزب العمال الكردستاني التركي المعارض (PKK) الذي ظهر على مسرح الأحداث في مطلع ثمانينيات القرن المنصرم، وملف المياه الذي بات يشكل هاجسا يؤرق مختلف أطراف المجتمع الدولي منذ حوالي نصف قرن، لاسيما مع بروز واستفحال عوامل التغير المناخي، والقراءات الاستشرافية المتشائمة عن ارتفاع أسعار المياه لتكون اغلى من النفط. وكذلك ملف الدخول التركي على خط الخلافات والصراعات الداخلية العراقية المنطلقة من -والمستندة إلى- محركات قومية وطائفية ومذهبية واثنية، غذتها عوامل خارجية إقليمية ودولية مختلفة.

واذا كانت الظروف السياسية لكل من العراق وتركيا قبل الإطاحة بنظام حزب البعث المنحل في عام 2003 قد أبقت الملفات الخلافية منحصرة في مساحات معينة محدودة، فإن المرحلة او المراحل اللاحقة لها شهدت خلطا كبيرا للاوراق، بسبب استغلال تركيا السيء لظروف العراق السياسية والأمنية والاقتصادية الاستثنائية، مع غياب مسار واضح ورؤية موضوعية عراقية لكيفية التعاطي مع تركيا وغيرها من الأطراف القريبة للعراق والبعيدة عنه. وكان مردّ ذلك الغياب، التقاطعات الحادة والخلافات العميقة بين المكونات السياسية العراقية نتيجة تعدد وتباين ارتباطاتها وولاءاتها واجنداتها، بحيث لم يكن ممكنا في ظل ذلك الواقع المتأزم تحقيق انفراجات حقيقية في الملفات الخلافية، وكان التوصيف الدقيق لعلاقات بغداد وأنقرة هو "الدوران في حلقة مفرغة" أو ان الحوار بينهما هو اقرب الى "حوار الطرشان"، والدليل على ذلك أن شيئا لم يتغير، بل إن الأمور اتجهت في بعض المحطات والمنعطفات إلى المزيد من التأزيم والتصعيد السياسي والعسكري والمائي، رغم أن أغلب الذين تعاقبوا على رئاسة الحكومات العراقية خلال العشرين عاما الماضية زاروا أنقرة باحثين عن حلول للمشاكل ومفاتيح للأبواب الموصدة لكن دون جدوى، حيث أن أنقرة كانت تريد كل شيء دون أن تتنازل عن أي شيء، بينما كانت بغداد تأتي بلا رؤية واضحة أو برؤية ضبابية عائمة.

ولكن ماذا عن رئيس الوزراء العراقي الحالي محمد شياع السوداني وزيارته الأخيرة لأنقرة؟

في واقع الامر، تفاوتت الرؤى والتقييمات لتلك الزيارة، بين من نظر اليها على انها لم تخرج عن سياق المجاملات الدبلوماسية والسعي الى تحفيز انقرة للتعاطي الايجابي مع العراق دون الدخول في صلب المشكلات والازمات الامنية والسياسية والمائية القائمة بين الطرفين منذ فترة طويلة، وبين من نظر اليها على انها خطوة مهمة للغاية باتجاهين، الاول يتمثل بحل ومعالجة جزء من المشاكل الداخلية، لاسيما ازمة المياه في العراق، والوجود العسكري التركي المربك والمقلق على الاراضي العراقية، والذي توسع كثيرا خلال الاعوام العشرة المنصرمة، والاتجاه الاخر يتمثل بتعزيز حضور العراق وانفتاحه الايجابي على محيطه الاقليمي والفضاء الدولي.

وفي الاطار العام، بدا واضحا ان كفة الرؤية الايجابية رجحت على كفة الرؤية السلبية، من خلال بحث ومناقشة ملفات حيوية واستراتيجية عديدة، من قبيل طريق التنمية المعروف بالقناة الجافة، التي تبدأ من منافذ العراق البحرية في اقصى الجنوب، لتقطع مسالكه البرية حتى الشمال ومن ثم تدخل الاراضي التركية لتمر بمنافذها البحرية وتصل الى اوروبا، وإطلاقات نهر دجلة لتأمين خزين مائي كاف للعراق، والتنسيق العسكري والاستخباراتي بشأن التعامل مع الوجود المعارض لتركيا في شمال العراق، وتحديدا حزب العمال الكردستاني، وتوسيع دائرة محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين، ووضع حد للاستغلال والتوظيف السياسي السيء من قبل انقرة لهذه الورقة.

ذهب السوداني إلى تركيا، وهي غارقة في كم كبير من المشاكل السياسية والاقتصادية الداخلية، والمأزق الخارجية المرتبطة بمطامح ومطامع التوسع والهيمنة والنفوذ في ميادين بعيدة، وكأنها تحاكي حقبة الإمبراطورية المترامية الأطراف، وتتطلع إلى استعادة امجاد الماضي المندثر تحت ركام المعارك والحروب العالمية والاقليمية على امتداد ما يزيد على القرن من الزمن.

ذهب السوداني إلى تركيا وهي تبحث عن مسالك ومخارج تحفظ لها ماء الوجه وتجنبها خسائر واستحقاقات كثيرة وكبيرة، وما انعطافاتها بعد قطيعة أعوام نحو القاهرة وأبوظبي وعواصم أخرى إلا مؤشرات واضحة وجلية على ذلك.

ذهب السوداني إلى تركيا حاملا رؤية شاملة إن لم تكن عميقة ودقيقة بالكامل، فإنها بلا شك واضحة المسارات والأهداف والمخرجات.

المياه وتقاسمها وتوزيعها بطريقة عادلة وفق المعاهدات والمواثيق الدولية والاتفاقات الثنائية والثلاثية، وضبط الحدود المشتركة، واحترام السيادة الوطنية، ومنع الاعتداءات العسكرية المسلحة من أراضي هذا الطرف ضد الطرف الآخر، والتعاون والتنسيق في مجال محاربة الفساد وملاحقة الفاسدين.. كانت أبرز وأهم الملفات التي طرحها السوداني على طاولة البحث والنقاش مع كبار المسؤولين الأتراك، وفي مقدمتهم الرئيس رجب طيب اردوغان.

ولعل واحدة من ابرز واهم التساؤلات التي طرحت سابقا في مناسبات مختلفة وتطرح حاليا هي.. هل ان تركيا جادة وقادرة على تغيير وتعديل واصلاح سياساتها الخاطئة ومواقفها وتوجهاتها السلبية حيال العراق؟

والاجابة على مثل تلك التساؤلات، تنطوي على قدر من الصعوبة، بسبب حجم التعقيدات والتشابكات والمؤثرات التي حكمت وتحكمت بمسارات العلاقات بين بغداد وانقرة بمختلف المراحل والحقب التأريخية والراهنة، كما اشرنا انفا. 

وحتى لا نذهب بعيدا، ونغوص في عمق الكثير من الارقام والمعطيات الجدلية، يمكن القول ان الحقيقة الشاخصة في ذلك، تتمثل في ان تركيا تعاطت بصورة سلبية مع العراق طيلة عقدين من الزمن او اكثر، وعملت على استغلال ظروفه السياسية والامنية الاستثنائية من اجل تحقيق مصالحها وتعزيز وتوسيع نفوذها ووجودها فيه، ناهيك عن اللعب على وتر القضية الطائفية من بعض البوابات السياسية. وهي اذا كانت قد حققت بعض المكاسب، فأنها من جانب اخر خسرت اكثر منها، خصوصا وانها فتحت العديد من الجبهات الخارجية، في سياق سعيها المحموم لاستعادة امجاد الامبراطورية العثمانية، ناهيك عن ان مشاكلها الداخلية على الصعيدين السياسي والاقتصادي تفاقمت واتسعت بدلا من ان تنحسر وتتقلص.

ولم يكن من الصعب على صناع القرار التركي ادراك حجم المشاكل والازمات التي يواجهونها ويواجهها شعبهم، والتي تحتم عليهم حلها او بأدنى تقدير حلحلتها، لاسيما وان هناك استحقاقات انتخابية قريبة، يمكن ان تعيد نتائجها ومخرجاتها رسم الخارطة السياسية، وصياغة معادلات جديدة تتقدم فيها قوى وشخصيات معينة على حساب قوى وشخصيات اخرى.

وارتباطا بجملة حقائق وثوابت تأريخية وجغرافية وامنية وسياسية واقتصادية، فان مراجعة وتصحيح مسارات علاقات انقرة مع بغداد، يعد خيارا واقعيا وعقلانيا لابد منه بالنسبة لساسة انقرة، مثلما ان العراق في ظل حكومته الحالية وما طرحته من برنامج خدمي اصلاحي تنموي انفتاحي، وضع في اولوياته التعاطي مع كل الاطراف وفق قاعدة المصالح المتبادلة، وتكريس نهج الانفتاح وتوفير عوامل الجذب الاقتصادي، والتعامل مع الملفات الخلافية بطريقة متوازنة بحيث لا تفضي الى المزيد من الصدامات والتقاطعات والاختلافات.

وقد لا يختلف اثنان في أنه لم يكن متوقعا أن تحدث زيارة السوداني لتركيا تحولات وانقلابات كبرى، بيد أن المتفق عليه هو انها ربما شكلت منعطفا مهما في المسار المتعثر والمرتبك للعلاقات العراقية-التركية على ضوء الواقعيات الراهنة، فضلا عن امكانية مساهمتها في احتواء مجمل ازمات ومشاكل المنطقة، وتحريك ملفاتها الخلافية، باعتبارها جاءت كجزء من سياق التحرك العراقي السياسي والدبلوماسي الايجابي على دول الجوار والمحيط الاقليمي والفضاء الدولي.

وثمة من يعتقد ان علاقات ايجابية مثمرة بين بغداد وانقرة، من شأنها ان تعطي زخما كبيرا لمسار المصالحات الاقليمية، وتوفر بيئة مناسبة وفضاءات اوسع للحوار والتفاهم بين الفرقاء والخصوم الاقليميين، وبعيدا عن الاجندات والمشاريع الدولية، التي ثبت بما لا يقبل الشك، انه اريد من ورائها اغراق المنطقة بالمزيد من المشاكل والازمات والصراعات والحروب بمختلف عناوينها ومسمياتها واشكالها ومظاهرها. فضلا عن ذلك، فان علاقات ايجابية مثمرة بين بغداد وانقرة، كما هو الحال مع علاقات بغداد وطهران، ومثلما يؤمل ان تكون العلاقات بين بغداد والرياض، يمكن ان تساهم في تحريك الاوضاع الاقتصادية للبلد وتعزز فرص الاستقرار والهدوء السياسي بدرجة اكبر، بلحاظ تداخل السياسة مع الاقتصاد، والامن كذلك.