التعليم الديني.. جدل بين العلمانيين والإسلاميين

الخلاف حول موقع التعليم الدينيّ يعرّي أزمات متعدّدة لم يستطع العلمانيون ولا الإسلاميون حلّها، منها: ما يتعلّق بطريقة نقل المعرفة والرأسمال الرمزي إلى الأجيال القادمة.

يُبين النقاش حول مكانة التعليم الدينيّ في المنظومة التعليميّة في تونس، عن أزمة الثقة إذ يعسر على كلّ فريق أن يؤسّس علاقة مع الآخر قائمة على الثقة المتبادلة. ويمكن القول: إنّ عجز العلمانيين عن بناء مناخ جديد يسمح بالنقاش مع الإسلاميين، لا يفهم إلاّ في ضوء دوائر الخوف التي برزت بعد صعود الإسلاميين إلى الحكم: الخوف من تغيير مكاسب النساء، والمسّ بنمط الحياة، والحدّ من الحريّات الفرديّة، والتهديد الموجّه إلى المبدعين بدعوى الاعتداء على المقدّسات. ثمّ إنّ تجربة حكم الإسلاميين وطريقة تعاملهم مع أنصار الشريعة بمنحهم امتيازات خاصّة، والتغاضي عن مخططاتهم التي كانت تهدف إلى إرساء دولة الخلافة، والتي أدّت في ما بعد إلى انتشار العمليات الإرهابيّة، تسببّت في اتساع دوائر الخوف وجعلت النقاش حول كلّ القضايا يتّخذ صبغة الإدانة العلنية للآخر، والتفتيش في النوايا والسعي إلى إقصاء المغاير الذي يمثّل العدوّ.

               لئن تباينت المواقف، فهناك ما يجمع بين الخصوم؛ إذ يلتقي العلمانيون والإسلاميون في إيمانهم بضرورة الحفاظ على التعليم الدينيّ باعتباره مادّة لها مكانتها في المقرّرات الدراسيّة، لكنّهم يختلفون في نوعيّة المناهج المعتمدة والمضامين والغايات. فهل التركيز يجب أن يكون على المحتوى الإسلاميّ الذي من شأنه أن يوثّق صلة المتلقّي بأمّته وهوّيته العربيّة الإسلاميّة، أم إنّ على هذا المحتوى أن يكون حداثيا منفتحا على تجارب الدول الكبرى وفي خدمة المواطنة، ومؤديا إلى تنمية مواطنين مثقّفين، ومسؤولين يفكّرون بحرّية ويسهمون في بناء المجتمع وتحقيق التنمية؟

        يتفق العلمانيون والإسلاميون أيضا في الرغبة في ضرب الوصاية على الآخرين تارة باسم الإسلام، وطورا باسم الحداثة. ومن خلال أوصياء الحداثة وأوصياء الدين ترسم الحدود وتبنى الجدران العازلة، ويغدو مصير الناشئة رهن الإرادة السياسيّة والتوجّه الأيديولوجيّ. ولعلّ الإشكالات التي تفرض نفسها عند تناول مكانة التعليم الدينيّ في تونس اليوم هي الآتية: هل يدرس الدين الإسلاميّ من وجهة نظر إيمانية أم من وجهة نظر معرفية؟ هل تدرّس مادة التربية الإسلاميّة بأسلوب استعلائي تفاضليّ أم بأسلوب يركّز على المشترك الإنسانيّ؟ هل تكرّس مناهج التربيّة الإسلامية وجهة نظر ماضوية؟ لِمَ يقوم الدرس الإسلامي على التخويف والترهيب بدل الإلحاح على المسؤولية الفردية؟ ولم يقوم الدرس الدينيّ على تجريد الآخر من فضائله بدل توضيح التقارب بين الشعوب والتعارف والتثاقف؟ كيف تبرز صورة المختلف دينياً في التربية الإسلاميّة؟ لماذا تتجه السياسات التربوية المعتمدة إلى تديين مناهج التعليم؟ وما العلاقة بين تنامي التطرّف العنيف وتراجع تدريس الفلسفة والفكر النقدي؟

        أظهر الجدل عن مكانة التعليم الدينيّ تباينا في المواقف واختلافا في المرجعيات، وأبان عن عسر التفاعل ولكنّه كشف في الوقت ذاته، عن أشكال "التدافع" وطرق التفاوض التي تأسّست بين العلمانيين والإسلاميين. ولا يمكن التغاضي عن مسألة أخرى تتصل بواقع التعليم؛ فهو يعمل وفق أهداف تصوغها القوى المهيمنة في المجتمع، والتي تشكّل موازين القوى. فخروج الإسلاميين من الحكم بعد انتخابات 2014 جعل محاولاتهم المتكرّرة للدفاع عن خياراتهم في المجال التربويّ والتعليميّ لا تتخذ صبغة المواجهة المباشرة، بل تسير في اتجاه العمل "السريّ"، وهو أمر راجع -في اعتقادنا- إلى وعي القيادات بالتحوّلات الإقليمية والعالميّة من جهة، وإقرارهم بفاعلية شقّ كبير من المجتمع المدنيّ التونسي، الذي جعل الدفاع عن الدستور والدولة المدنية والتوجه الحداثي أولويّة الأولويات، من جهة أخرى. ولئن تنزّلت مقاومة النشاطين العلمانيين على محاولات الإسلاميين التحكمّ في التعليم الدينيّ في إطار أداء المجتمع المدنيّ المتميّز في مرحلة الانتقال الديمقراطي، فإنّ فئة من الإسلاميين تعرّف الجهد الذي تبذله في سبيل توفير تربية إسلامية داخل الجمعيات وفي الكتاتيب وغيرها من الفضاءات، على أنّه نشاط حقوقي منصهر في أنشطة المجتمع المدنيّ، الهادفة إلى ترسيخ الممارسات الديمقراطية. ولا شكّ أنّ هذا التصوّر يهدف إلى التصدّي لاحتكار العلمانيين تمثيلية المجتمع المدنيّ من جهة، والدفاع عن شرعيّة مطالب الإسلاميين الداعية إلى إحداث تغيير في المنظومة التربوية والتعليميّة، من جهة أخرى. ونذهب إلى أنّ مناخ ما بعد الثورة جعل الإسلاميين ينزّلون تحرّكاتهم ضمن الحراك الاجتماعيّ المستمرّ، ويرون أنّ من حقّ التونسي مهما كان انتماؤه أن يكون مواطنا فاعلا يدافع عن اختياراته بـ"طريقة سلمية"، وهذا التحوّل في رؤية الذات وتقييم أدائها من خلال لغة توحي باستيعاب ثقافة حقوق الإنسان، والتعددية والتنوّع... مثير للانتباه ويستدعي مزيد التمحيص، لا سيما وأنّه محلّ نقاش.

فالعلمانيون يؤكّدون أنّ تحركات الإسلاميين هي غير مدنية، وغير ديمقراطية، ومخبرة عن توظيف للمعجم الحقوقيّ بهدف انتزاع الاعتراف محليّا، والتلاعب بالرأي العامّ العالمي، وكسب تأييده لا سيما بعد وعي هؤلاء بأنّ السياسات الأمريكية تجاه الإسلاميين قد تغيّرت بعد تجربة ممارستهم الحكم، وفشلهم في إرساء الديمقراطية وإقرارهم بالحريات الفرديّة.

إنّ الخلاف حول موقع التعليم الدينيّ يعرّي أزمات متعدّدة لم يستطع العلمانيون ولا الإسلاميون حلّها، منها: ما يتعلّق بطريقة نقل المعرفة والرأسمال الرمزي إلى الأجيال القادمة، ومنها ما له صلة بعجز المؤسسات التربوية والتعليمية عن بناء الفرد الحرّ القادر على ممارسة حقّه في الاختيار بكلّ وعي ومسؤولية، ومنها ما له وشائج بالذاكرة الجمعية وطريقة تفعيلها، ومنها ما له علاقة بتصوّر المستقبل.

ملخص بحث آمال قرامي "التعليم لديني في تونس بعد الثَّورة: جدل العلمانيين والإسلاميين"، كتاب 133 يناير(كانون الثاني) 2018 "الإسلاميون ومناهج التعليم في العالم العربي وتركيا وإيران" مركز المسبار للدراسات والبحوث- دبي.