«العمل عن بعد» ظاهرة تفرض نفسها

تركت الثورة الاتصالية آثارها الواضحة على ميدان العمل، فطرأ تغيير جوهري على الأدوات المستخدمة في مزاولة الأعمال، وتغيرت أولويات تصميم المكاتب، بينما نشأ مفهوم "العمل عن بُعد" في ظل ذلك.
ولا يقتصر الأمر اليوم على مزاولة العمل خارج المكتب أو المنشأة، بالاستعانة بوسائل الاتصال والتشبيك الإلكتروني، بل شاع أيضاً في أوساط العاملين القفز على الحدود السياسية للدول والمساحات الجغرافية الشاسعة باستخدام الوسائل ذاتها، فالأمر يتعلق حالياً بالعمل العابر للحدود والقارات والبحار كذلك.
وقد تزامن هذا التطوّر في أداء الأعمال مع اتساع نطاق التجارة الإلكترونية، وظهور مقار افتراضية لمؤسسات وأعمال تجارية ليس لها قاعدة فعلية محسوسة سوى شبكة الإنترنت.
وقد كانت الشركات متعددة الجنسية هي الأسبق على الإطلاق في اغتنام فرصة العمل عن بعد؛ فشركات البرمجة العملاقة مثلاً تستنزف جهود موظفيها في الدول النامية، وهم الأدنى أجراً، وتحصل على ثمرة إنتاجهم بواسطة الاتصال الشبكي الذي يحضرها إلى سياتل أو ميونيخ أو لندن في الحال.
ولا تجد هذه الشركات نفسها ملزمة بالتقيّد بمعدلات الأجور السائدة في الدول الصناعية، أو حتى بالنظم والقيود التي تحكم مزاولة الأعمال، لكنها في نهاية المطاف تجني المكسب ذاته الذي ستحصده فيما لو كانت تستخدم موظفين بأجور مرتفعة في البلدان الثرية.
وقد طال العمل عن بُعد قطاعات حساسة ودقيقة للغاية؛ كالأطباء الذين يُدلون بالاستشارات العلاجية عبر الاتصال الشبكي، أو متابعي شاشات المراقبة بالفيديو للمنشآت الحساسة كالمصارف مثلاً، فمن هؤلاء من يجلس في بلد أمام شاشة تنقل ما يدور في بلد آخر، دون أن تعيقه المسافات الشاسعة عن توجيه التعليمات الملائمة في الحال من خلال تقنيات الاتصال الحديثة.
وأما عقد الاجتماعات المرئية فقد بات وسيلة مفضلة لأعداد متزايدة من رجال الأعمال منذ هجمات الحادي عشر من أيلول/سبتمبر، بما أفرزته من خشية من ركوب الطائرات المدنية الكبيرة. فعبر هذه الاجتماعات الإلكترونية يتم إنجاز قدر كبير من المهام في الوقت الراهن، بما يوفر النفقات والأوقات.
ولكنّ ظاهرة العمل عن بُعد لا تخلو دوماً من السلبيات. فبغض النظر عن إيجابياتها الكثيرة؛ شجّعت هذه الظاهرة شركات متعددة الجنسية على تحقيق أرباح حالمة على حساب الأيدي العاملة الفقيرة في البلدان النامية. كما أنّ بيئة العمل التقليدية، وبما يرتبط بها من مزايا، ليس أقلها التفاعل الاجتماعي والاتصال الشخصي المباشر وتحاشي العزلة؛ تتلاشى عندما يجري اللجوء إلى أسلوب العمل المنفرد أو مزاولة العمل انطلاقاً من المنزل مثلاً.
والأخطر على ما يبدو؛ أنّ الاتصال الفعلي بين المؤسسة والعامل لديها عن بُعد يكون قائماً على أساس معيار الإنتاجية دون الالتفات إلى شخصية العامل وتوطيد علاقة إنسانية ودية معه، ولذا فهناك من يحذِّر من مغبة قطع وشائج الاتصال الإنساني التقليدي من خلال هذا النمط من العمل.
بل تلوح محاذير أخرى؛ عندما لا يخضع العمل عن بُعد لضوابط تحديد ساعات العمل، التي تحكمها قوانين صارمة في بعض البلدان لصالح المستخدمين، فيكون هؤلاء عرضة للاستغلال، بل قد يبدو العامل عن بُعد مجرد متعهد خارجي للقيام بالأعمال، فيمكن الاستغناء عنه بسهولة ودون منحه حقوقه كاملة.
وقد تنشأ عن نظام العمل عن بعد ثغرات قانونية وضريبية عديدة، ترتبط أساساً بتباين قوانين العمل والاستخدام المعمول بها بين بلدان العالم، أو قد تعزى إلى عدم وضوح صيغة التعاقد بالقدر الكافي.
بيد أنّ هذه السلبيات العديدة ليس بوسعها أن تُخفي مزايا أتاحتها ظاهرة العمل عن بُعد، خاصة بالنظر إلى ما حقّقته الظاهرة من تطوير للأعمال وادخار للأوقات والجهود والنفقات، وتوفير لمزيد من فرص العمل للقوى العاملة في البلدان النامية، لكنّ هذه المزايا ذاتها كثيراً ما تحمل في طياتها محاذير مركّبة.
ومن الواضح أنّ العمل عن بُعد يعزِّز من اعتماد النموذج الشبكي في المؤسسات وإدارة الأعمال بدلاً من الهرمية المؤسسية التقليدية، خاصة وأنّ هذه الأشكال الجديدة من العمل تمنح العاملين هامشاً واسعاً من الاستقلالية وحرية التحرّك، وقدراً وافراً من المرونة في الأداء.
وأيا كان الأمر؛ فإنّ ظاهرة العمل عن بعد ماضية في الاتساع والتنوع وترسيخ حضورها في قطاعات العمل، بكل ما تحمله من خصائص باهرة أو دواعٍ للقلق. (ق.ب.)