آن الصافي تعترف بتأثير جدتها في كتاباتها

الكاتبة السودانية تقدم فكرة الأديان السماوية، وما يعتري إنسان اليوم من تشظي الذات في رؤى تتعلق بالواقع والمتخيل والهذيان والحلم.
أعشق الحرف قراءة، ولا بد أن نستقي العِبر من الماضي، ونصحح خطوات اليوم مع المحافظة على الموروثات الجميلة
تغيير العالم بالأدب تراها الصافي أنها في الظاهر، عبارة جامحة الخيال، ولكنها ممكنة إلى حد ما

اسم ذو حضور سردي كبير في المشهد الإبداعي العربي المعاصر، يقودنا إلي فضاء ملامح المبدع الحقيقي في قدرته علي التجاوز والعبور من مساحات الظل إلي فضاء الإبداع المُبهر، له حضور الأسلاف، وهذا الحضور هو الذي يعطي  لنتاجه أصالته، فنور الماضي يضئ جوهر الجديد عنده، ويظهر جمالياته، إذ يطرح علينا في أعماله كافة صور مختلفة لبنيات متماسكة، بذلك، انتصر بقلمه وإصراره  علي تجاعيد الزمن. وراح يطل علي حدائق أيامه مع كل ما يعتمل في مشاعره من إنسانية شفَّافة، الاسم لأنثى راقية بكل ما تحمله من أحلام وقدرة هائلة على احتواء الناس، كل الناس، ورغبتها شديدة في البناء على أرصفة الواقع، توزع على المارة صنوف المفردات البريئة ونظراتها المطمئنة.
صدر لها عدة أعمال أدبية تتكئ - في معظمها - على مفردات الثقافة الشعبية السودانية (مسقط رأسها)، من تلك الأعمال الروايات التالية: (فُلك الغواية - 2014)، (جميل نادوند- 2014)، (توالي- 2015)، (قافية الراوي- 2015)، (كما روح -2016)، (إنه هو- 2017)، (الكتابة للمستقبل ج1- 2016)، (الكتابة للمستقبل ج2– 2017) ...الخ.
عودةٌ علي لُحمةٍ، إذ نراها تقف على المسافات التي تمنعها دائمًا من الوقوع في منزلقات الظلام، متماسكة بالضوء أينما رأته، هي أيضًا وجهٌ تألفه دون تعبٍ يُذكر، إذ تطل من نافذته جهامة وابتسامة بحجم الكون، كما نغرف من طيبتها التي لا نجهلها فرحًا وبهجة، ونراها ترشرش بروحها عطر الزهر على دروب الأحبة، وتصوّب بنظراتها المتفائلة علي فسيح وبراح خُلق من نور، تحس أنها غنية جدًا بخصال نفيسة، فإذا طالعتكَ في الصباح الباكر، ودنت منكَ، رأيتها سيدة فاضلة، يضوع المسك من أردانها، عليها رداء فاخر، تباهي بذوق صاحبته في قماشه وطرازه، اجتمع فيه ذوق البائع والمشتري. عندما خرجت علينا هذه المبدعة، تلتحف برداء البراءة، وتتدثر بمعطف الإبداع، كنت أبصر جُل نصوصها الإبداعية الرائعة منقوشة بيد كاهن متمرس في مهنته، فتلتف حول عقولنا بتلك المطويات الموسومة بلغة من عمر سحيق، وفي أثناء غفلتي وشرودي أسمع صوتها الرؤوم يطن صداه في رأسي: يا صديقي، لا تتوجس مني خيفة، فلن أدس لك في عقلك إلا الخير! هي الروائية والشاعرة، الإعلامية السودانية المتألقة آن الصافي. 

novel

الأمر يفصح عن نفسه، إذ جاء حواري معها في موئله ومعاده، ففي دروب وأزقة  هواجسها الأدبية وُلدت الأسئلة من رحم بوابات الحياة؛ وهذا بدوره يُفضي إلي  اكتشاف صوتها المتصالح مع ذاته، إذ ينشر رواقه في تؤدة ورزانة، فننهل من معينها الطيب الرائع الذي لا ينضب بجملة من الإجابات، وقد قادنا ذلك في جوف الليل إلي ردود قد تطول وقد تقصر، لكنها تُونع كثمرة  شهيّة المذاق!  
معراجٌ علي أجنحة السرد 
قالت في بداية الحوار: لا شك أنَّ جدتي من الوالدة تركت بصمة عظيمة في نظرتي للحياة، ترملت في مطلع العشرينيات من العمر ورعت أطفالها، رفضت الزواج، وكرَّست حياتها كي ترعى زرعها وثماره في أعمارهم المختلفة، كانت تحمل على عاتقها قصعة مليئة بالصبر والحكمة والابتسامة وجمال الخلقة والأخلاق، هذا كل ما تركته من بصمات لدى كل من يتعامل معها، لها الرحمة والمغفرة.
أيضًا، في المنزل وجدت دومًا الجو الملائم للتعلم والفهم والتشبع بالثقافة الأم، والتراث الذي يجمعنا بأرض النيلين، فهذه الثقافة قوية، ولا يوجد لمعظمنا إلا أن يعشقها ويشعر بالمسؤولية لاستمرارها بقوة واحتفاء بجمالياتها، هذا بالطبع لا يتعارض مع التعايش مع الثقافات المحيطة هنا في وطنا الثاني دولة الإمارات العربية المتحدة، كما أنَّ مكتبة الوالد عليه سحائب الرحمة والمغفرة كانت زاخرة بالكتب، وكانت هداياه لي تتضمن الكتب بمناسبة وبدون مناسبة، وكان للوالدة عوالم مليئة بالمشاعر الفيَّاضة، إذ كانت  تشاركني القراءة والحوار والتشجيع المستمر، عدا ذلك، كان الوالد لديه عادة يومية يجلسني بجواره؛ لأقص عليه قصة قبل النوم، وليس العكس، كما هو معهود، إن لم يعجبه ما أقص عليه كان يفتح عينيه ويقول لي: هذه ليست جيدة غيري الحبكة أو آتي بقصة جديدة. كان جمهوري وناقدي وحسبت حينها أن جميع البشر يستطيعون أن يحكوا قصصاً.
أما عن "فُلك الغواية"، فهو أول نص نُشر لي وسبقه عدة نصوص في الكتابة، كان علي أن أختار بماذا أبدأ ، فضَّلت أن أقدم فكرة الأديان السماوية، وما يعتري إنسان اليوم من تشظي الذات في رؤى تتعلق بالواقع والمتخيل والهذيان والحلم، حيث محور الشخصية الرئيسية تَعبر بنا في تفاصيل حياتها التي يعتريها الكثير من المسائل المتشابكة، وتعاني من صراعات تحاول في كل مرة النهوض والمواصلة علها تصل إلى مبتغاها. اسم العمل لا أفسره وأترك للقارئ أن يكتشفه عند قراءته للنص، عادة أبتكر تقنيات تجعل النص قابل للقراءة من أي فصل إلى أي فصل، وحتى إن قرئ من أوله إلى آخره لن يتفق اثنان على ما يوجد عبر النص، فالمتلقي لدي عنصر رئيسي في أحداث العمل، الكل سيجد ما يوافق ثقافته..
وعن الطقوس المعتادة عند الكتابة قالت الصافي: لا شيء، فقط تتجسد فكرة النص أمامي والقضية أو القضايا التي سيحملها. ثم أبدا بعون الله.
وعن تأثير الصحافة في إبداعها قالت: لا أمارس العمل الصحفي بتفرغ تام، فقط أنشر بعض الأوراق والمقالات.

المشهد الأدبي في السودان دومًا نشط، وحاليًا يتنفس الجميع الصعداء؛ أملاً في المضي قُدمًا لتقديم الأفضل في المرحلة الحالية والقادمة

أما النقد، فالنقاد يستمرون بتقديم ما يشاءون أمام النصوص الحديثة، والتي تحمل قضايا عصرنا هذا، وسيكون هناك دومًا شيء من المحدودية، لن يستطيعوا تجاوز أبعاد جديدة انطلق إليها المبدع. كما أقترح دومًا مسألة دخول النقد الثقافي إلى الساحة قد ينجز الكثير مما نحتاجه كأجيال في هذا الجانب من كوكب الأرض.
أما عن سؤال الكتابة فتقول آن الصافي: أكتب للجميع، وآمل أن أستطيع تقديم ما يُعبر عن جيلي، لماذا عليَّ أن أفعل ذلك؟ ربما لأني أعشق الحرف قراءة، ولا بد أن نستقي العِبر من الماضي، ونصحح خطوات اليوم مع المحافظة على الموروثات الجميلة، والحث على أنسنة المجتمعات، وبث ثقافة التسامح، والمحافظة على البيئة، والحث على الاستدامة. نعم، فالحقيقة أن الكتابة متعة ومسؤولية عظيمة في هذا العصر. لولا الكتابة لكنتُ أكثر رضوخًا لمعاول الأزمنة، ولاختنقت بصُراخي. لولا الكتابة لأصبحت هدفًا للخطوب والنوازل والكوارث، ونهبًا للعطب والتلف والضياع!
وتعتقد الصافي أن الماضي مهم للدراسة والتحليل والاستفادة، وكل ما ذُكر في التاريخ قابل لإخضاعه، للتشريح والتشكيك، وهذا يوافق تمامًا طبيعة البشر طالما الهدف الوصول إلى فهم ما عليه حاضرنا واحد، ومن ثم سد الثغرات والمضي بالثوابت الجيدة، لبناء أرضية صلبة للمستقبل. تحقيق مبدأ الأصالة والجماليات التي سيقدمها العمل  ويميزه.
وأكدت أنه لدينا غنى في تنوعنا الثقافي، لدينا لغة بديعة، لدينا تكافل اجتماعي، لدينا شعوب رائعة، لدينا موروثات مدهشة لطالما ألهمت الآخرين عبر التاريخ وحتى وقتنا الحالي. إذن لمَ لا نجدد، لمَ لا نطور، لم لا نقدم ما قد يسهم في إيصال ولو جزء من وميض في ذهن القاريء عبر ما نقدم من أعمال. الأدب والثقافة والفنون.
إن الكتابة نعمة قد تصل إلى مرحلة القدسية، فالحرف يمكنه أن يبني حضارة، ومن الممكن أن يحطمها. ودومًا البقاء للأكثر صلاحاً.
لقد علمتني جدتي كيفيه الاستفادة من كل التجارب لصناعة الأفضل، وحكمة الشيخ زايد، جعلتني أعيش على حجم دولة ماذا يعني المحاولة حتى النجاح، وليس فقط النجاح بل النجاح الاسثنائي. على الصعيد الشخصي صداقتي بوالدتي وبوالدي الراحل فهمت – من خلالها - معنى الأمان والأمل، وأن كلمات مثل مستحيل وفشل غير موجودة في قاموس الحياة هناك.. لكن هناك (مسائل عالقة) يمكن تجاوزها إن فكرنا في الحلول الممكنة. أؤمن جدًا بالتوكل علي الله، وأتخذه نهج حياة. 

novel
عمل يدور حول ما عانته منطقتنا في العقود الأخيرة 

وقالت عن عملها الجديد "خبز الغجر" في تلك الرواية، القريبة إلي قلبي، ذهبت بمتخيلي نحو عوالم كثيرة متداخلة، كل ذلك لنسج خيوط عبر الحرف وعنونته بـ "خبز الغجر". هي رواية تطرح قضايا عدة تتعلق بالاقتصاد والمجتمع والعلاقات بين المجتمعات المختلفة ثقافيًا والمتواجدة في الأرض ذاتها معًا عبر التسامح والتكافل، كذلك عرفت مواجهة قضايا البيئة، ففيضانات السودان مؤخراً بسبب أخطاء جسيمة ترتكبها عمدًا دول مصنعة تسيء للبيئة والاستدامة، والسودان من الدول التي تدفع الثمن حتى وإن كان خارج حلقة التصنيع، تلك هي مجمل نصوص الكتابة للمستقبل، حيث نشهد مسائل حول مفاهيم الهوية والانتماء، وأيضًا الطرح العلمي الذي وجد عبر نظرية الاقتصاد السلوكي. 
وترى الكاتبة السودانية آن الصافي أن الأعمال الإبداعية التي تتسم بالأصالة تجذبها لفهم جماليات الأصالة فيها، بغض النظر عن الكاتب وإلى أي حقبة زمنية ينتمي. وتقول: حين أقرأ عملا به محاكاة لعمل أصيل سابق، يكون لدي الفضول لتبين ما هو الجديد المقدم؟
وتقول عن روايتها "مرهاة" أنها عمل يدور حول ما عانته منطقتنا في العقود الأخيرة من صراعات وقضايا تسببت في تشتيت الشعب الواحد قصرًا وطوعًا ونهب ثرواته،  عبر سلب كنوز الدول وسلب ثقافتها، نغوص عبر صفحات طويلة في رحلة ماتعة مع شخوص العمل؛ لفهم قيمة تراث هذه الدول، وما أنتجته شعوبها عبر الحضارات السابقة حتى آلت إلى أجيال اليوم. 
الجوائز الأدبية تراها الصافي أنها إضافة، وترحب بها بالتأكيد، وعادة الجوائز تكون رمزية وتشجع على طباعة نسخ أكبر للكتاب الفائز، وهكذا تدور العجلة بشكل منسق ومفهوم. فنعم للمسابقات والجوائز طالما أنها تشجع على القراءة والكتابة والتفكير وتنشيط محاور النقد.
وفكرة تغيير العالم بالأدب تراها الصافي أنها في الظاهر، عبارة جامحة الخيال،  ولكنها ممكنة إلى حد ما، إن أثر الأدب في الفرد ومن ثم المجتمع، ستكون هناك موجة جيدة لحمل الفكر بشكل سلس. كما لا ننسى أن القوة الناعمة تعتمد على ذلك، فإن تُرك الشأن للكاتب، قد يُسهم في رؤية قضايا المجتمع بشكل أكثر وضوحاً.
وترى الصافي أن المشهد الأدبي في السودان دومًا نشط، وحاليًا يتنفس الجميع الصعداء؛ أملاً في المضي قُدمًا  لتقديم الأفضل في المرحلة الحالية والقادمة.