أحمد بلية يتتبع 'مغامرة الأفلام الخيالية الطويلة' في التلفزيون الجزائري
لعبت الإذاعة والتلفزيون دورا كبيرا وفعالا في التأسيس لسينما جزائرية خيالية، إلى جانب السينما التي نشأت في أحضان الجبال الجزائرية، سايرت خطوات النضال والكفاح الجزائري أثناء الثورة التحريرية، وفي نفس الوقت اهتم آخرون بالوسيلة الإعلامية الفنية الجديدة، وهي التلفزيون العاصمي.
هذا ما يؤكد الباحث الجزئري المتخصص في الأدب المقارن د.بغداد أحمد بلية في كتابه "التليفزيون الجزائري والسينما.. مغامرة الأفلام الخيالية الطويلة"، ويتتبع فيه العلاقة التاريخية بين المسرح والسينما في الجزائر قبل وبعد الثورة التحريرية، والتأثير المتبادل بين المسرح والسينما العربيين في مصر والمغرب وتونس وبين المسرح والسينما في الجزائر وأيضا تأثير السينما الغربية خاصة الفرنسية، كما يتوقف مطولا مع الدور الانتاجي للتليفزيون ومؤسسات رسمية أخرى، ويحلل أبرز الأفلام التي أنتجها التليفزيون الجزائري قبل الاستقلال وبعده، خاصة أعمال أشهر المخرجين من بينهم: محي الدين باش تارزي، مصطفى غريبي، محمد التوري، حبيب رضا، سيد علي فرناندال، مصطفى بديع، عبد العزيز طولبي، محمد إفتيسان، محمد حازرلي.. مشيرا إلى إن المشاركة في ثلاثة أفلام سينمائية من طرف تارزي ورشيد قسنطيني لدليل قاطع على أن بعض الجزائريين كانت لهم الخبرة الواسعة في مجال الفن السابع منذ الثلاثينات من القرن العشرين.
ويؤكد أن الكثير من الفنانين، والتقنيين الجزائريين الرواد أثبتوا مقدرتهم على مسايرة المعارصة التقنية، أثبتوا كفاءة كبيرة تضاهي خبرة الفرنسيين القادمين من باريس، لسوء الحظ فقد ظلت الوثائق، الأفلام المصورة في تلك المرحلة مخفية، مما كرس الكثير من الأفكار الخاطئة حول تاريخ الفن في الجزائر وبخاصة ما تعلق بصناعة الأفلام، تكوين الممثلين، شاعت الأفكار عن فراغ ثقافي ساد الجزائر زمن الاستعمار، أن الاستقلال كان البداية الحقيقية لوجود كثير من الفنون، وفي هذا إجحاف في حق الرواد الأوائل، وفي بعض الأحيان كانت الاتهامات تصب عليهم بحق وبغير حق.
ويوضح بلية في كتابه الصادر عن دار البدر الساطع أنه إذا كانت المسرحية تعرض في قاعة المسرح، الفيلم السينمائي في قاعة سينما بحضور المتفرجين، فإن العرض التلفزيوني لا يشرط مشاهدا محسوسا بل افتراضيا، لذا يصبح نظام الاتصال في المسرح هو الذي يمنح التميز المسرحي، ونظام الاتصال في السينما يمثل ميزة الفيلم السينمائي، ويتحول التلفزيون إلى نظام اتصال يضم كافة الأنظمة، إذ يغدو العرض المسرحي تمثيلية مصورة، ويتحول الفيلم السينمائي حين يعرض على شاشة التلفزيون إلى مجرد فيلم تلفزيوني، وذلك لتشابه اللغة السينمائية بين الفيلم السينمائي والتلفزيوني، واختلاف نظام العرض، من قاعة متخصصة لعرض الأفلام إلى بث عن طريق شاشة التلفزيون جليلة لكبار المخرجين المسرحين والسينمائي، فلا تخلو قناة من فضاء فيلمي، تعرض خلاله أقدم المسرحيات وأحدثها، فلا نفاجأ أبدا إذا عرضت علينا أفلام شارلي شابلن الصامتة وقد مر عليها قرن من الزمن، بينما لو عرضت على قاعات السينما لا يلتفت إليها المشاهد لأنه يسير مع موضة الأفلام الجديدة حتى وإن كانت قيمتها وضيعة فنيا، فالعرض السينمائي يقوم أساسا على مبدأ تجاري خالص، إذ تعرض الأفلام في قاعات السينما لمدة قد تتجاوز الأسابيع، مما يمكن المنتجين من الحصول على الأموال الضخمة الناتجة عن نسب دخول قاعات السينما، وبعد مضي فترة من الزمن يتحول الفيلم إلى مجرد عنوان في تاريخ السينما، ولولا ما تقوم به بعض نوادي السينما أو معاهد السينما أو السينماتيك أو ما تقوم به القنوات التلفزيونية لما أعيد أي بث أي فيلم سينمائي قديم. وهكذا يتعرف المشاهد التلفزيوني على أشهر أعمال المسرحيين والسينمائيين في تاريخ الفن الحديث أمثال أورسن ولس وجون فورد وفيدريكو فيليني وفيتوريو دوسيكا وفرنسوا تريفو وصلاح أبوسيف ويوسف شاهين وغيرهم كثير.
ويرى أن العرض التلفزيوين يتبدى كنظام يختلف عن باقي الأنظمة الأخرى، بحيث يستوعب ماضي العروض وحديثها، سواء الأعمال الدرامية المسرحية أو السينمائية وكذلك التلفزيونية من أفلام تلفزيونية أو مسلسلات.إن الاختلاف بين الفيلم التلفزيوني والسينمائي يتجلى في عملية إنتاج الفيلم، فالأفلام السينامئية ترصد لها المبالغ الطائلة، لكونها تعرض داخل قاعات سينما، وتعرف مداخيلها من القاعات في ظرف أسابيع من العرض، بينما الفيلم التلفزيوني يعتمد على ميزانيات متواضعة، مع استعمال نفس اللغة السينمائية المعتمدة على المشاهد واللقطات والمونتاج. وهذا التشابه في الهدف أي إنشاء فيلم يصور رواية أو قصة، دفع بالكثير من القنوات التلفزيونية إلى المشاركة في إنتاج الأفلام السينمائية بغرض استغلالها بعد انتهاء مدة العرض في القاعات.
ويلفت إلى أن التلفزيون الجزائري على غير العادة كان سباقا إلى إنتاج الأفلام الخيالية الطويلة، وذلك منذ ظهور التلفزيون بالجزائر أي منذ منتصف الخمسينات من القرن العشرين، وبعد استقلال الجزائر أنتج التلفزيون الجزائري وصور بعض الأفلام الخيالية القصرة والطويلة، سنوات عديدة قبل أن يصور السينمائيون الجزائريون أفلامهم الخيالية الطويلة، وبهذا تصبح المادة التلفزيونية ذات أهمية كبيرة لارتباطها بالسينما والمرح أي بفنون العرض المختلفة، بل إنها تحتوي تلك الفنون في نظام جديد، فيغدو الفيلم السينمائي فيلما تلفزيونيا والعرض المسرحي عرضا تلفزيونيا.
ويرى أنه بعد الإصلاحات السياسية التي عرفتها الجزائر بعد مرور عقد من السنوات على استقلالها، تلقف بعض المخرجين بالتلفزيون الجزائري الأفكار الثورية السائدة وحاولوا طرحها على المشاهد الجزائري، غير أن ارتباط اولئك المخرجين بالتاريخ القريب وهو حرب التحرير جعلهم في كثير من الأحياء يزاوجون بين أحداث الزمن الكولونيالي وزمن الاستقلال، وفي بعض الأحيان كانت الطرح مقصودا لبيان ضحالة التعبير وصعوبته. من بين هذه الأفلام فيلم "نوة" للمخرج عبد العزيز طولبي الذي أنتجه التليفزيون بالاشتراك مع الديوان القومي للتجارة السينماتوغرافية، وفيلم "الطارقة" للمخرج الهاشمي شريف، وفيلم " المصب" للمخرج محمد شويخ، وفيلم "قرب الصفصاف" للمخرج موسى حداد، وفيلم "زيتونة بو الهيلات" للمخرج محمد نذير عزيزي، وفيلم "يوميات شاب عامل" للمخرج محمد إفتيسان وغيرها.
ويضيف أن الإنتاج الفيلمي التلفزيوني لم يرتكز أساسا فقط على الأفلام الثورية أو المسايرة للإصلاحات الإشتراكية السائدة مع بداية العقد السابع من القرن العشرين، بل إن المخرجين حاولوا رصد عديد المظاهر الإجتماعية وبالتالي رصد التطورات الحاصلة في المجتمع الجزائري في مرحلة ما بعد الاستقلال، ولعل أهم ظاهرة عاينها الفنانون جميعا والمخرجون خصوصا، حيرة الشباب وقلقه الناتج عن تحولات سياسية اجتماعية خارجة عن إرادته، مما ينتج عنها انحرافات خطرة تؤثر عليه حتما. وكانت أول محاولة مع فيلم يوسف بوشوشي "من الجاني" 1972 مع حسن الحسني ومصطفى العنقا والعزيزي عبد القادر والريس عاشور، ويعتبر الفيلم صرخة تنذر بعواقب ترك الشباب الجزائري في مهب رياح الظروف الاجتماعية القاسية، في غياب سياسة وطنية حتمي
الأسرة والفرد الجزائري، فالأب المهاجر في فرنسا منذ عشرين سنة، حين يعود إلى وطنه يعتدي عليه شاب، يكتشف فيما بعد أنه ابنه، ولهذا يلح الفيلم عبر عنوانه على تحديد مسؤولية الجناية عند الأب أو المجتمع؟. وبنفس الرؤيا التحذيرية ينبه رشيد بن حاج في فيلمه الطويل "المعتدون" 1979 على سوء مصير فئة معينة من الشباب الجزائري، ساعدتها الظروف الاجتماعية في العقد السابع من القرن العشرين على البروز وتصدر طليعة المجتمع المليء بالأمراض الاجتماعية الطفيلية، ويظهر رشيد بن حاج عوامل الشباب الخفية المرتكزة على منطق القوة والعنف في مواجهة المجتمع، وهو في نفس الوقت السبيل الوحيد للريادة بين تلك الجامعات نفسها.
ويؤكد أن الإنتاج الفيلمي التلفزيوني ساير التطورات الحاصلة في الجزائر، وعبر أصحابه عن الظواهر الخفية والجلية في ذات المجتمع، والملاحظ أن معالم ثورة التحرير وآثارها ظلت عالقة في النفوس حتى بعد مرور عقدين من استقلال البلاد، وحين عرف التلفزيون الجزائري أول مبادرة نسائية في الإخراج، وهو عمل فني رائد في تاريخ السينما والتلفزيون الجزائري، جسدته الروائية المخرجة الجزائرية الكبيرة آسيا جبار أرادت أن تخوض مجال التعبير بالصورة فكتبت سيناريو "نوبة جبال شناوة" وأخرجت الفيلم سنة 1976، بمساعدة أحمد سجان وشريف عبدون في التصوير ونيكول شليمر في التركيب، وجسدت الشخصيات كل من سوسن نوير ومحمد حيمور.
وفي إطار تحليله للإنتاج الجزائري المشترك بين السينما والتليفزيون، يقول "منذ تأسيس التلفزيون الجزائري كمؤسسة إعلامية بعد الاستقلال، تفطن القائمون عليها لأهمية الأفلام الخيالية في مناقشة القضايا الجوهرية التي تمس المجتمع والتاريخ والنفس البشرية، لذا أنشأت مصلحة خاصة بالإنتاج السينمائي، وكان القصد منها إنتاج أفلام تلفزيونية وسينمائية على السواء، فالبرامج التلفزيونية آنذاك كانت تعتمد بنسبة كبيرة على العروض السينمائية أي عرض أفلام سينمائية بعد تحويلها إلى نظام الفيديو حتى يسهل بثها على التلفزيون، وبهذا يمكن توفير نسبة كبيرة من الأفلام الخيالية للبرامج الوطنية.
ويشير إلى أنه لما عرض مصطفى بديع مشروع فيلمه الخيالي الأول "الليل يخاف الشمس" 1965على المركز الوطني للسينما، ساهم التلفزيون الجزائري في إنتاجه، فكان بذلك أول إنتاج مشرك بين مؤسسة سينمائية وتلفزيونية .كانت تجربة مصطفى بديع التلفزيونية كفيلة وحدها لإعطائه الكفاءة العالية للإخراج السينمائي، فكلاهما يسير على نظام تواصل دقيق تتحكم فيه طريقة التصوير المتتالية حسب المشاهد واللقطات ثم يعاد بناء الفيلم حسب نظام تقطيع متعدد الأوجه، وسواء طبقت هذه الاسس على السينما أو التلفزيون سيكون لها نفس النتائج، فالفرق بين الوسيلتين يكمن في نظام العرض ووسائل التصويرالمختلفة بين كاميرات فيديو وأخرى لأفلام ذات طاقة عالية في دقة التصوير .
حاول مصطفى بديع في أول عمل سينمائي له وللسينما الجزائرية أن يقول كل شيئ في عمل واحد، فالفيلم عبارة عن صورة شاملة لتاريخ شعب بكامله، فأحداث وقعت قبل الثورة وأثناءها وبعدها أرجأت ولم يناقشها الجزائريون في تلك السنوات التالية لاستقلال البلاد، أراد مصطفى بديع أن يشير إليها أو يلمح لها، فكان بذلك فيلما طويلا تجاوز الثلاث ساعات، مزج فيه بين أنماط متعددة من السينما الحديثة، وجمع بين الفيلم الحربي والبوليسي والتاريخي والاجتماعي والميلودراما. ويخوض مخرج سينمائي آخر عمار العسكري في موضوع الثورة التحريرية بإنتاج مشترك بين الكاييك والمؤسسة الوطنية للتلفزيون الجزائري وبين شركة ساتبيك التونسية لإنتاج السينمائي، كتب المخرج السيناريو بمعية مراد بوربون، وهو يختلف جذريا عن أفلام عمار العسكري السابقة ومنها "دورية نحو الشرق" 1971، الواصف لأحداث الثورة التحريرية بطريقة واقعية حرفية، يعود عمار عسكري ثانية سنة 1987، ليظهر خبايا الثورة، وأن الكثير من المجاهدين الجزائريين لم ينصفهم التاريخ، وصنفوا ضمن الخونة وهم في الحقيقة من المناضلين المخلصين لوطنهم.
ويقول أنه بعد مرحلة السبعينات التي انتعش فيها إنتاج الأفلام السينمائية والتلفزيونية، تلتها مرحلة الثمانينات التي تميزت بتراجع واضح ومثير، ولم نر إلا فيلما سياسيا واحدا أخرجه أحمد راشدي "الطاحونة" من إنتاج الديوان الوطني للتجارة السينماتوغرافية، ومع نهاية الثمانينات وبداية التسعينات دخلت السينما الجزائرية في أزمة إنتاج كبيرة، إذ أثرت الظروف السياسية السيئة التي عاشتها الجزائر في كثير من القطاعات ومنها السينما والتلفزيون، ومع بداية الألفية الثانية حدث انفراج جلي في الإنتاج الفني، وعرفت السينما الجزائرية عدة أفلام جديدة وظهور أسماء رائدة وأخرى شابة في الإبداع السينمائي، وفي هذه الحركة السينمائية الجديدة كانت مساهمة التلفزيون الجزائري كبيرة، فقد مول التلفزيون الجزائري العديد من الأفلام سواء الجزائرية أو ذات الإنتاج المشرك. والملاحظ على المواضيع المطروحة في معظم الأفلام الجزائرية في سنوات الألفين مناقشة الأحداث المؤلمة التي عاشها المجتمع الجزائري يف مرحلة التسعينات أو ما سمي بمرحلة الإرهاب أو المأساة الوطنية، والتي يرجعها بلقاسم حجاج إلى نهاية الثمانينات في فيلمه "ريح النسيان" 1998، إذ يظهر أحداث أكتوبر 1988 على أنها بداية دخول المجتمع الجزائري في الأزمة السياسية الخطرة، وتزداد أحوال أبطال الفيلم سوءا مع تطور الأحداث في التسعينات، وهكذا يتحول الأصدقاء الثلاثة رمضان وأسماء وفوزي إلى أعداء، في أحداث لا دخل لهم فيها، ولكنهم يتحولون إلى أطراف فاعلة فيها.
ويلفت إلى الأفلام العربية التي ساهم التلفزيون الجزائري في إنتاجها منها فيلم يوسف شاهين "إسكندرية ليه" 1978، وقد سبق ليوسف شاهين أن اشترك مع الديوان القومي للتجارة السينماتوغرافية في العديد من أعماله السينمائية السابقة منها "العصفور" 1972 و"عودة الابن الضال". الفيلم الثاني المميز الذي شارك التلفزيون الجزائري في إنتاجه هو "عزيزة" للمخرج التونسي عبد الطيف بن عامر 1980، الذي يصور التحولات المهمة التي عاشتها الأسرة التونسية في مطلع الثمانينات.