تونس تطلق الملتقى العربي لأدب الطفل
أحمد فضل شبلول
تحت عنوان "أدب الطفل ومنظومة القيم وقضايا البيئة" تنطلق في مدينة الفنون بالعاصمة التونسية الدورة الخامسة عشرة للملتقى العربي لأدب الطفل صباح الخميس 30 مايو/أيار الجاري، ويستمر على مدى يومين متتاليين، وفيه توزع الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الطفل على الفائزين بها والتي يرعاها البنك العربي التونسي.
وقد رأت اللجنة العلمية المنظمة لهذا المتلقى برئاسة د. محمد آيت ميهوب أنه منذ أقدم العصور ارتبطت الكتابات الموجّهة إلى الناشئة والفتيان بمنظومة القيم ورامت النهوض بوظيفتي تهذيب سلوك الأطفال وتوجيههم إلى حسن التصرف، استنادا إلى مجموعة من القيم الواجب اتّباعُها. هذا ما قامت عليه ضمنيّا حكايات إيسوب وأقرّ به صراحةً عبدالله بن المقفع في مقدّمة "كليلة ودمنة" وجان دي لافونتين في مقدّمة "الحكايات المثليّة". ولم تخرج عن هذا السياق القصصُ الموجّهةُ إلى الأطفال واليافعين التي ظهرت قبل قرنين وأسّست ما صار يعرف بـ"أدب الأطفال" بالمعنى الدقيق للكلمة، وتعدّ حكايات الأخوين غريم نموذجا رائدا لها. فمن الصعب جدا أن يعثر المرء، إن في الشرق وإن في الغرب، على قصّة للأطفال واليافعين تخلو من الارتباط بمنظومة القيم ولا تقوم على توجيه ما يحثّ الطفل على التحلي بالقيم الإيجابية ونبذ القيم السلبية.
وقد قُدمت تعريفات كثيرة جدا لمنظومة القيم تنوعت واختلفت بتنوع منطلقات واضعي التعريفات واختلاف مشاربهم. ويمكن إجمالا اعتبار منظومة القيم نظاما عقليا مجردا معقدا يشتمل على أحكام تقويمية بعضها إيجابي وبعضها سلبي تتراوح بين القبول والرفض ويطلقها الفرد على الأشخاص والتصرفات والمواقف الاجتماعية والعاطفية، وعلى أساسها يحدّد الفرد علاقته بجسده ومحيطه ومجتمعه. فمنظومة القيم هي إذن معايير للحكم يعتمدها الفرد لتحديد الجميل والقبيح، والطيّب والخبيث، والمرغوب فيه والمستكره، وهي موجهات قوية تحركه في ما يأتي من أعمال ويتّخذ من مواقف ويتمثّلها على نحو واع صريح أو على نحو ضمنيّ خفيّ، في كلّ ما يصدر عنه. ومن خلال الالتزام بمنظومة القيم، يستمد الفرد الروابط التي تصله بمجتمعه ويرسّخ انتماءه إلى ثقافة ذلك المجتمع.
ولئن كانت أهمية حضور منظومة القيم في أدب الطفل من الأمور المتّفق عليها بين كتّاب هذا الأدب ونقّاده ودارسيه، فإنّ مدار النقاش هو على شكل هذا الحضور ودرجته وصورة توظيفه وشروطه والسبيل التي ينبغي على مؤلّف أدب الطفل اتّباعها وهو يتمثّل منظومة القيم، حتى ينجح في المواءمة بين المطلب التربويّ والمقتضى الجماليّ.
فكثيرا ما كان استحضار منظومة القيم في أدب الطفل منفعة تؤدّي إلى مضرّة، وحقّا يفضي إلى باطل. ذلك أنّ الكثيرين من التربويّين والوعّاظ والمؤدّبين وممن لم يؤتوا من موهبة الكتابة شيئًا قد ابتذلوا الكتابة للطفل واتّخذوها مطيّة سهلة لإمطار قارئهم الطفل بوابل من النصائح والأوامر والنواهي الأخلاقيّة في قالب تصريحي مباشر جافّ، فكانت نصوصهم لا تزيد على أن تكون خطبا وعظيّة ركيكة لا حظّ لها من الخيال والتشويق والحسّ والعاطفة والفنّ والجمال شيئا. وكم أصدرت المطابع ودور النشر العربية من آلاف الكتب الموجّهة إلى الأطفال التي لا تزيد على أن تكون في أحسن الأحوال ملحقات بالكتب المدرسيّة واستنساخات لدروس التربية الدينية والتربية الوطنية، يماري من خلالها المؤلّفون والناشرون الأولياءَ ويسعون إلى الربح السهل. فأغلب النصوص المكتوبة للأطفال تكاد تكون دروسا مباشرة فجّة تقريريّة جافّة يتقمّص فيها المؤلّف دور الواعظ، فيتوجّه إلى الطّفل بخطاب تعليميّ تلقينيّ لا تمثّل المادّة الحكائيّة فيه إلاّ مبرّرا لسوق الموعظة تلو الأخرى، وحشو المعلومات بطريقة نمطيّة آليّة، ولا تمثّل اللّغة إلاّ أداة للتبليغ والتواصل ووعاء يحوي الخطاب التربويّ التعليميّ، فتأتي في الدرجة الدنيا الصفر من الأدبيّة، عارية قفراء من الصور التخييليّة.
إنّ الرهان الأكبر الذي يخوضه كلّ من يكتب أدب الطفل ويرنو إلى الارتقاء به إلى مصاف الإبداع، هو ولا شكّ الطيران بجناحي هذا الأدب الاثنين: الجناح التربويّ والجناح الجماليّ، فالنصّ الموجّه إلى الطفل يلبّي مطلبين: مطلبا تربويّا بيداغوجيّا تمثّل فيه المادّةُ القصصيّة أو الشعريّة أو المسرحيّة رسالةً يسعى المؤلّف إلى تبليغها للطفل راجيا تحقيق غايات تربويّة وأخلاقيّة وحضاريّة نبيلة، ومطلبًا فنيًّا جماليًّا ترتقي فيه الكتابة إلى مستوى الغاية المقصودة لذاتها، فيكون هدف المؤلّف تحسيسَ الطفل بقيمة النصّ في حدّ ذاته وحضَّه على اكتشاف مواطن الإبداع الجماليّ فيه بغية تنمية قدراته الذوقيّة والخياليّة والتعبيريّة.
بيد أنّ حضور منظومة القيم في أدب الطفل وتمثّل المؤلّف لها يقتضيان كذلك النظر في عدّة إشكاليات فكريّة ومنهجيّة تلتصق بهذه القضيّة وتستوجب من الكاتب الوعي وتدعونا إلى النظر والبحث. فهل أن منظومة القيم ثابتة متجانسة واحدة لا تتغيّر ولا تتحوّل كما توهمنا بذلك، أو هي متحوّلة نسبيّة متعدّدة المستويات؟ وما السبيل إلى ترسيخ النصّ في منظومة قيم المجتمع والثقافة اللّذين ينتمي إليهما الطفل والانخراط في الوقت نفسه في منظومة القيم الإنسانيّة المطلقة؟ وهل أدب الطفل هو مجرّد وعاء نملؤه بمنظومة القيم أو هو فضاء إنتاجيّ أيضا تنشأ في تربته نفسها منظومةُ القيم وتتشكّل في ثنايا تشكّل النص ذاته؟ أي هل نتعامل مع القارئ الطفل على أنه متلقّ سلبيّ لمنظومة القيم أو على أنّه مشارك منتج لها؟
ومن القضايا المعاصرة التي أصبح لها حضور ما فتئ يقوى يوما بعد يوم في الثقافة الغربيّة وفي مناهج التدريس هناك، قضيّةُ البيئة والمخاطر التي تهدّد الطبيعة. فالوعي بهذه القضيّة والعمل على حماية البيئة صارا يعدّان اليوم جزءًا أساسيّا من منظومة القيم الإنسانيّة التي يجب أن يربّى عليها الطفل سعيا إلى تنشئة أجيال تحمي البيئة ولا تكرّر الأخطاء القاتلة التي وقع فيها الأسلاف. ولئن كان الوعي البيئيّ ما يزال جنينيّا في الثقافة العربيّة اليوم لا تواكبه المناهج المدرسيّة على النحو الكافي والناجع، فإنّنا نجد في ما يكتب للأطفال من قصص وأناشيد ومسرحيّات أعمالا تبشّر بغد أفضل لأدب بيئيّ عربيّ قادر على أن يساهم في تربية الإحساس البيئيّ لدى الطفل العربيّ وتوعيته بضرورة العمل على حماية البيئة في مختلف مستوياتها الترابيّة والنباتيّة والمائيّة والجويّة.
وليس المقصود هنا بالأدب البيئيّ ما عرف في الأدب العربيّ منذ أقدم عهوده وازداد قوّةً مع المدرسة الرومنطيقيّة، من حضور للطبيعة وتقصّ لعلاقة الإنسان بها عاطفيّا واجتماعيّا واقتصاديّا، بل إنّ المقصود تحديدا هو انبناء النص الأدبي على الوعي المعاصر بمشاكل البيئة والمخاطر التي تهدّد الطبيعة والفضاء والوجود الإنساني من قبيل: تضاؤل الموارد الطبيعية، وشحّ المياه، والتلوّث البيئيّ بمختلف أنواعه، والتغيّر المناخيّ، والانحباس الحراريّ، والغازات الضارة، والاقتصاد الأخضر، والتنمية المستدامة.
إنّ وعي الطفل العربي بهذه القضايا البيئيّة المصيريّة صار اليوم أمرا حتميّا يرتقي إلى مصاف القيم الأخلاقيّة والوطنيّة والإنسانيّة. فما حظّ الوعي البيئيّ في الكتابات الموجّهة إلى الطفل العربي؟ وما السبل إلى تطوير تناول أدب الطفل العربي لهذه المسائل؟ وكيف يمكن أن تتعاون المدرسة والأدب في تطوير هذا الوعي؟
وفي هذا السياق العام تأتي الندوة الدولية السنوية التي ينظّمها "الملتقى العربي لأدب الطفل" في دورتها الخامسة عشرة لسنة 2024، وقد اختير لها موضوع "أدب الطفل ومنظومة القيم وقضايا البيئة".
ويشارك في هذا الملتقى مجموعة من الباحثين والمهتمين العرب من داخل تونس وخارجها، وفي التاسعة صباحا من يوم الخميس 30 مايو/أيار الجاري يطلع الحاضرون على المعرض الخاص بالدورات السابقة، يعقبها افتتاح أعمال الملتقى وكلمة منتدى أدب الأطفال، ثم كلمة وزير الشؤون الثقافية، فكلمة وزيرة الأسرة والمرأة والطفولة وكبار السن، فكلمة الأستاذ سعيد حمدان الطنيجي المدير التنفيذي لمركز أبوظبي للغة العربية.
بعدها تبدأ الجلسة العلمية الأولى برئاسة الأستاذ شفيق الجندوبي، وفيها يتحدث د. محمد آيت ميهوب عن الورقة العلمية للمؤتمر، وتتحدث د. جليلة الطريطر (من تونس) عن الرهانات القيمية في أدب الطفل/الناشئة، بينما يتحدث الباحث المصري أحمد فضل شبلول عن منظومة القيم في قصص كامل كيلاني.
بعدها تبدأ الجلسة العلمية الثانية برئاسة أحمد فضل شبلول وفيها يتحدث د. عبدالعزيز آيت بها (من المغرب) عن القيم الاجتماعية في عينة من روايات اليافعين الفائزة بالجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الأطفال - دراسة معجمية إحصائية. ثم يتحدث د. أصيل الشابي (من تونس) عن جمالية الحلم والقيم الإنسانية في أدب الطفل عند محمد الغزّي، ثم تقدم د. وفاء الشامسي (من عُمان) بحثًا عن النقد البيئي ممارسة تطبيقية في عينة منتقاة من قصص الأطفال.
الجلسة العلمية الثالثة يرأسها د. عبدالعزيز آيت بها (من المغرب) وفيها يتحدث د. رضا الأبيض (من تونس) عن السرد الأيكولوجي الموجه إلى الأطفال والشباب، ودلال الغربي (من تونس) عن المناهج الدراسية في تونس ومدى تأصيلها للتربية البيئية: المرحلة الإعدادية أنموذجا، ثم يقدم الكاتب والشاعر التونسي حافظ محفوظ قراءة في قصة "رحلة إلى الأرض" للشاعر محمد الغزّي في مديح الأرض، ثم يتحدث د. رياض مريحيل (من تونس) عن استشراف الكارثة والرهان على العلم في أدب الخيال العلمي لليافعين. ويعقب ذلك شهادات لكتاب شبان حول تجاربهم في الكتابة الأدبية.
وفي اليوم التالي تعقد ورشة في القراءة والكتابة الأدبية الموجهة إلى الأطفال، تأطير وتنشيط الكاتبة جميلة الشريف.
ويختتم الملتقى بحفل تسليم الجائزة العربية مصطفى عزوز لأدب الأطفال في دروتها الخامسة عشرة، مع الاستماع لشهادات المتوجين.