حسين عبدالبصير يفكِّك ألغاز 'كتاب الموتى'
يرى عالم الآثار المصري د. حسين عبدالبصير أن "كتاب الموتى" الفرعوني هو حجر الزاوية في فهم الحضارة المصرية القديمة ومعتقداتها الروحية. ومن خلال تحليله، يمكن للجميع أن يدركوا كيف أن النصوص الجنائزية لم تكن مجرد تعليمات لضمان النجاح في الآخرة ودخول جنات النعيم (حقول إيارو)، بل كانت تعبيرًا عن فلسفة حياة متكاملة، ومزيجًا من المعتقدات والطقوس التي شكّلت مفاهيم الحياة والموت في مصر القديمة.
غير أن "كتاب الموتى" لم يكن الأول من نوعه في تناول الحياة الأخرى عند المصري القديم، إذ سبقته نصوص الأهرام، التي كانت مخصصة للملوك وبعض الملكات فقط، انطلاقًا من الاعتقاد بأنهم وحدهم يمتلكون القدرة على بلوغ الحياة الأبدية مع الآلهة. ويوضح عبدالبصير أن هذه النصوص أثّرت بشكل كبير في تطور المفاهيم الدينية المتعلقة بالموت في الحضارة المصرية القديمة.
بالإضافة إلى ذلك، ظهرت "نصوص التوابيت"، التي كُتبت على جدران التوابيت الخشبية، واحتوت على تعاويذ مشابهة لتلك الموجودة في نصوص الأهرام، لكنها أصبحت متاحةً لطبقات اجتماعية أوسع.
وفي كتابه "كتاب الموتى"، الصادر حديثًا ضمن سلسلة "تراث الإنسانية للنشء والشباب" عن مكتبة الإسكندرية، يوضح عبدالبصير أن هذا الكتاب جَمع النصوص الجنائزية المتنوعة في مؤلَّف واحد، ليصبح رمزًا مهمًّا للثقافة الجنائزية المصرية، إذ كان يُرافق الموتى في مقابرهم كدليل إرشادي للحياة الأخرى.
يستعرض المؤلف السياق الثقافي والديني لـ "كتاب الموتى"، متطرقًا إلى مفاهيم العدالة والمحاسبة في محكمة أوزير (أوزيريس)، ودور هذا الكتاب الاجتماعي والديني، الذي لم يكن مجرد نص ديني، بل كان له تأثير عميق على المجتمع. كما يبرز موقعه ضمن التراث الإنساني العالمي، إذ تجاوزت تأثيراته حدود مصر القديمة، لتلهم ثقافات أخرى بفكرة الحساب والحياة بعد الموت. ويُعد من أهم الأعمال التي تُدرَس لفهم نظرة المصريين القدماء إلى الموت والخلود، حيث تهدف نصوصه إلى مساعدة الروح في رحلتها إلى العالم الآخر وفق العقيدة المصرية القديمة.
ومن بين هذه النصوص، تأتي التعاويذ الوقائية، التي تُعد أول أقسام "كتاب الموتى"، وكان الهدف منها حماية المتوفَّى من الأخطار التي قد تواجهه في العالم الآخر. تضمنت هذه التعاويذ أحيانًا أدعية لطلب حماية الآلهة، وأحيانًا أخرى تعاويذ سحرية لمنع قوى الشر من الاقتراب من روح المتوفَّى.
يشير عبدالبصير إلى التعويذة 125، التي تُعد واحدةً من أهم نصوص "كتاب الموتى"، إذ تصف محاكمة المتوفَّى أمام أوزير، إله العالم الآخر والموتى والبعث. خلال هذه المحاكمة، يُوزن قلب المتوفَّى مقابل ريشة ماعت، رمز العدالة والحق. فإذا كان القلب خفيفًا، نال المتوفَّى الحياة الأبدية، وإن لم يكن كذلك، تعرّضت روحه للهلاك.
كما يتناول المؤلف التعويذة 17، إحدى أطول فصول "كتاب الموتى"، التي تُعد من أروع نماذج الكتابة في مصر القديمة، نظرًا لبنيتها الفريدة التي تحتوي على تعليق داخلي. تربط هذه التعويذة المتوفَّى بالإله الخالق، وتتميز بصياغة دينية متكررة. فعلى سبيل المثال، في أحد مقاطعها يأتي السؤال: "ماذا يعني ذلك؟"، ويليه تفسير غير مباشر بصياغة دينية. ومما جاء في أحد الأقسام: "أمسي لي، وأنا أعرف الغد"، ليأتي التفسير: "أمسي هو أوزيريس، والغد هو رع". وتعتمد معظم المقاطع على أكثر من تفسير أو شرح واحد.
ومن خلال "كتاب الموتى"، نكتشف وجود تعاويذ للحماية من الحيوانات المفترسة، ونصوص خاصة بالمرور إلى العالم الآخر، بالإضافة إلى تعويذة "الأبواب الاثني عشر"، التي تُعد دليلًا للمتوفَّى لعبور هذه الأبواب في العالم الآخر، حيث يحرس كل باب إله أو كائن أسطوري. وكان يتوجب على المتوفَّى معرفة أسمائهم وتقديم التحية المناسبة لضمان المرور بأمان، وهي فكرة تذكّرنا بأسطورة أوديب الإغريقية.
ويشمل الكتاب نصوص البعث والتجديد، وتعويذة القلب (التعويذة 30B)، ونصوص التحوّل إلى كائنات مقدسة، ونصوص العبور في العالم السفلي، وتعويذة العبور إلى حقول إيارو (جنات النعيم)، حيث يُعتقد أن المتوفَّى ينعم بالحياة الأبدية. كما يحتوي على نصوص النجاة من "آكلة الموتى" (عِممت)، والنصوص المرتبطة بالآلهة، ونصوص الابتهال لأوزير، ونصوص رع وإله الشمس.
ويؤكد عبدالبصير أن "كتاب الموتى" ليس مجرد مجموعة نصوص وتعاويذ، بل هو أيضًا كنز بصري، إذ يضم رسومًا ورموزًا ذات دلالات دينية وروحية عميقة في الحضارة المصرية القديمة. لذا، يتوقف عند أهمية هذه الرسوم والرموز، مثل الرموز الإلهية، والفلكية، والطبيعية، فضلًا عن الرموز الشهيرة كعنخ (رمز الحياة)، وقرص الشمس، والجِبال، والحيوانات والطيور المقدسة، ومنها ابن آوى، والنسور، والصقور، والقطط. كما يبرز رموز الميزان والمحاكمة، إلى جانب الألوان ودلالاتها الرمزية، مثل الأزرق، والأحمر، والأخضر، والأسود.
كذلك، يتناول المشاهد التصويرية وأهميتها، لا سيما مشاهد محكمة أوزير، التي قد تذكّرنا بمحاكمات الزعماء المصريين في كتاب أمام العرش لنجيب محفوظ.
ويشير عبدالبصير إلى أن الموت، في الحضارة المصرية القديمة، لم يكن نهايةً للحياة، بل بوابةً إلى عالم آخر، حيث يمكن للمتوفَّى أن يواصل حياته الأبدية. ويوضح دور "كتاب الموتى" في الطقوس الجنائزية، مثل طقسة "فتح الفم"، التي تهدف إلى ضمان قدرة الميت على الكلام والأكل والشرب في العالم الآخر، ويشرح تأثير هذه الطقوس في المفاهيم الدينية والاجتماعية.
ولا شك أن "كتاب الموتى" لا يزال مصدر إلهام للدراسات الأكاديمية التي تركز على المعتقدات الدينية، والطقوس الجنائزية، والفلسفة الروحية. إذ تقدم نصوصه نافذةً لفهم نظرة المصريين القدماء إلى الحياة والموت، وتكشف عن تأثيرها العابر للحدود، من الدراسات التاريخية إلى التأملات الفلسفية والدينية.