أذربيجان وإطلاق ممر الغاز الجنوبي

تحاول أذربيجان اليوم عبر خط غاز الممر الجنوبي إعادة تجربة لعبة التوازنات الدقيقة في المنطقة في ظل وضع دولي معقد.

تمكنت أذربيجان ولثلاثة عقود من نسج علاقات جيوسياسية ممتازة مع محيطها، فتجاوزت الهواجس الروسية لجهة علاقاتها مع الغرب، مما حيّدها عن الكثير من المشاكل لاسيما موجة الثورات الملونة. تلك السياسات مكنتها من إطلاق خط الجنوب الغازي باتجاه أوروبا، الذي سيعيد خلط أوراق كثيرة، بخاصة ما يجري في المنطقة من صراعات حول الطاقة وما لروسيا من سياسات إستراتيجية تعمل عليها من خلال توسعها في بعض أزمات الشرق الأوسط. فهل ستتمكن أذربيجان من تثبيت توازن دقيق بين اللاعبين الإقليميين والدوليين وبالتالي المواءمة بين المصالح الغربية، والهواجس الروسية؟

لا تخفي أذربيجان ارتياحها لهذا المشروع في ظل دعم غربي واضح. فالأوروبيون يرون فيه كسرا للاحتكار الروسي لجهة توريد الطاقة، في وقت يمكن لموسكو أن تكون شريكا فيه في المدى المنظور، باعتباره لا يشكل واقعا تنافسيا ذات جدوى اقتصادية كبيرة. فبالنسبة للروس، أن ممر الغاز الجنوبي سيخصص لنقل الغاز من حقول أذربيجان، وبكميات لا تتجاوز عشرة مليارات متر مكعب سنوياً إلى أوروبا، وستة مليارات متر مكعب سنوياً إلى تركيا، مقارنة بالحجم الهائل لصادرات الغاز الروسي المقدرة 194.4 مليار متر مكعب سنوياً.كما تشير التوقعات في سوق الطاقة إلى أن الاستهلاك الأوروبي سيرتفع من 541 مليار متر مكعب سنوياً إلى نحو 546 - 572 مليار متر مكعب بحلول العام 2035، وهو محل متابعة شركة غاز بروم الروسية، التي راكمت حصتها في السوق الأوروبية من 33.1 إلى 34.7 في المئة العام 2017، وهي تتوقع نمو تلك الحصة إلى ما بين 35 و38 في المئة بحلول العام 2030. ورغم ذلك ثمة مخاوف جدية من أن يؤدي الممر الجنوبي إلى منافسة مشروع تورك ستريم الروسي التركي الذي سينقل خطه الأول 15.75 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي إلى تركيا، وإلى جنوب أوروبا ذات الكمية لاحقا. ورغم ذلك فموسكو ليست قلقة من أي تأثير جدي على شركتها (غازبروم)، لجهة الجدوى الاقتصادية فكلفة إنتاج شاه دنيز الاذرية تصل إلى 35 دولاراً للألف متر مكعب فيما حقول غازبروم لا تتجاوز 15 دولاراً للألف متر مكعب.

وعلى الرغم من ذلك، ثمة توجس روسي من إمكانية انضمام تركمانستان إلى الخط الجنوبي، الذي سيشكل عنصرا منافسا بالنسبة إليها، إلا أن ما يبعد هذا الاحتمال الوضع السياسي في المنطقة وعدم قدرة تركمانستان على الإقدام على ذلك، خشية على وضعها الداخلي وعدم إثارة الغضب الروسي.

ثمة عناصر أخرى يمكن ربطها بهذا الخط وهو ما أشير إليه سابقا من أن أذربيجان وتركيا على استعداد لاستخدام الممر الجنوبي لنقل الغاز من العراق وإسرائيل وقبرص، وهو ما أكدته أيضا تل أبيب وأنقرة، حين تحدثتا عن إمكانية بناء خط تصدير يربط حقل الغاز الإسرائيلي لفيتان بخط أنابيب تاناب. وهذا الآمر مرتبط بطبيعة الحال بما ستؤول إليه الأزمة السورية والواقع الروسي فيها.

بعد 13 عاماً على تشغيل خط أنابيب باكو - تبليسي - جيهان النفطي في أيار 2006، تحاول أذربيجان اليوم عبر خط غاز الممر الجنوبي إعادة تجربة لعبة التوازنات الدقيقة في المنطقة في ظل وضع دولي معقد، اعتمادا على الجذب الاقتصادي للاعبين الإقليمين والدوليين، وما يعزز ذلك ما قاله الرئيس الأذري إلهام علييف، في حفل تدشين الممر، من أن أوروبا هي السوق الأكثر جاذبية، وإضافة إلى طمأنة اللاعبين الآخرين، اعتبر أن المشروع الجديد "يأخذ في الحسبان مصالح الجميع من مورّدي الغاز ودول الترانزيت إلى المستهلكين."

إن الدور الذي انتزعته أذربيجان إقليميا وتمكنت من موازنة علاقاتها بأطراف إقليمين ودوليين كثر، قد ساعدها في ذلك تقاطع المصالح الاقتصادية وبخاصة الطاقة. واليوم تبدو تلك الفرضية أكثر واقعية لإمكانية التطبيق في المراحل القادمة، لاسيما وأن طاقة الشرق الأوسط لا زالت في حالة إعادة النظر في السياسات الإقليمية والدولية القائمة.