أربعة أيام في تونس

كنت مطالبًا بتلبية دعوات عدد من الجمعيات والمراكز الثقافية، والمبدعين في ثلاث مدن هي: جِرّبة، وبنزرت، فضلًا عن تونس العاصمة.
حرصت على ألا أغادر الأراضي التونسية إلا بعد لقاء الفنان نجا المهداوي
ليظل قلمي دومًا سلاحي وبقائي وخلودي

بقلم: مصطفى عبدالله

أربعة أيام أمضيتها في البلاد التونسية كنت فيها لاهثًا لأنني كنت مطالبًا بتلبية دعوات عدد من الجمعيات والمراكز الثقافية، والمبدعين في ثلاث مدن هي: جِرّبة، وبنزرت، فضلًا عن تونس العاصمة.
الدعوة الرئيسة جاءتني من الدكتور علي البوجديدي، كاتب عام جمعية التنشيط الثقافي بجربة، لأتحدث في ندوة دولية بعنوان "مدن ومعالم تونسية" عن تجربتي في صنع الصحف والمجلات الثقافية في أكثر من مدينة عربية بدءًا من "أخبار الأدب"، وصولًا إلى "الجسرة الثقافية"، التي حرص المنظمون على تكريم رئيس مجلس إدارتها الكاتب إبراهيم خليل الجيدة، لتخصيصه ما يقرب من مائة صفحة من عددها الأحدث لتقديم تونس كتاريخ وفسيفساء للمدن والثقافات عبر أربعة استطلاعات مدروسة عرفت بأربع مدن تونسية لكل منها خصوصيتها وتفردها: "توزر"، زهرة بلاد الجريد في الجنوب التونسي ومسقط رأس أبي القاسم الشابي، و"القيروان"، حيث جامع عقبة، وأهم رباط مغاربي، وثقافة عربية إسلامية ذات تجليات متفردة، و"تستور" ذات الطبيعة الأندلسية في خصوصيتها التونسية، ثم "جِرّبة"، جزيرة الأحلام التي حملت على صفحات "الجسرة" هذا العنوان "جربة: بحر وسحر".
وبالفعل نجح مضيفنا علي البوجديدي في توظيف موهبته في الكتابة، ومعرفته بالجزيرة، وحسه الفني لتقديم أجمل صورة لألوف مثلي ممن لم تطأ أقدامهم، من قبل، أرض جزيرة الأحلام، في حين أجاد زهير تغلات، ثاني مضيفينا، ومدير المركز الثقافي والسياحي المتوسطي بجرّبة، في أخذ القارئ في سياحة في تاريخ هذا المركز المتوسطي الذي كان "القباضة العمومية" قبل أن تستأجره الجمعية من بلدية المدينة لكي تنفذ أنشطتها في مختلف مجالات التثقيف والإبداع والتنشيط السياحي لمثل هذه الجزيرة الشهيرة.
لن تفوتني الإشارة إلى أن رفيقي الذي انضم إلىَّ، بمجرد وصولي إلى مطار تونس قرطاج، هو الناقد والروائي التونسي البارز الدكتور محمد آيت ميهوب، الذي أمضى معي أكثر من ثلاث ساعات ونحن ننتظر الطائرة التي ستقلنا إلى جزيرة الأحلام، وبالطبع لم يخرج حديثنا عن هذه التجربة الفريدة التي خضناها لإنتاج هذا الملف الضخم عن تونس، الذي أسندت إليه الإشراف عليه من ألفه إلى يائه، والذي استقبله وزير الثقافة التونسي الدكتور محمد زين العابدين بتقدير كبير عندما أهداه ميهوب أول نسخة من هذا العدد الذي يحمل غلافه لوحة لأحد فناني الخط التونسيين من ذوي الصيت الدولي: الفنان نجا المهداوي الذي حرصت على ألا أغادر الأراضي التونسية إلا بعد لقائه بمنطقة "المرسى" مع صديقيّ: ميهوب، ومحمد الماي، الذي كان دليلنا إلى قلب هذا الفنان الكبير.
أعود إلى مسار رحلتي، فقد وصلنا إلى جِرّبة، وعلى الفور اصطحبنا البوجديدي وتغلات في جولة قبل مغيب الشمس لنتعرف على طبيعة تكوين هذه الجزيرة، التي تضم نحو 360 مسجدًا، بعضها يشرف على الماء المحيط بالجزيرة من كل ناحية، ويعتبر بمثابة رباط أو حصون دفاعية لمواجهة الغزاة الذين كثرت غاراتهم على هذه الجزيرة على مر التاريخ، وبالفعل لم يكن ممكنًا ألا تشمل هذه الجولة زيارة برج غازي مصطفى، أو البرج الإسباني كما يسميه البعض، وقد ذكرني بقلعة قايتباي في الإسكندرية، وقد كان البرج مسرحًا لأحداث دموية، وشهد على معارك خلَّفت ألوف الجماجم للغزاة الإسبان صنع منها هرمًا.

لأنهض من حريقي! من رمادي
أقلامنا لا تسقطي

وقد انضم إلينا في هذه الجولة الدكتور فتحي بن معمر، الذي شارك في "ملف الجسرة" بمقال عن الثقافة الأمازيغية كمكون أساسي للهوية التونسية.
في قاعة أدونيس بهذا المركز المتوسطي كانت ندوة تكريم إبراهيم الجيدة والدكتور ميهوب وشخصي الضعيف وابن معمر والبوجديدي وتغلات في حضور رئيس بلدية حومة السوق الجديد الحسين جراد، وممثل وزير الثقافة فوزي عبداللطيف، المندوب الجهوي للثقافة بمدنين، وسط حضور كبير من رموز جِربة والمدن المتاخمة لها، ومن الأجانب الذين استوطنوها من الفرنسيين ومن إليهم. 
***
لا أزال في البلاد التونسية؛ وصلت إلى "بنزرت" وعلى الفور توجهت إلى إحدى مكتباتها البهية “Librairie L’univers des Sciences & Culture” لأشهد حفل توقيع أحدث كتب "بنت البحر" مع صديقي الدكتور محمد آيت ميهوب، وفيها أهدتني صديقتي "حفيظة  قارة بيبان" عدة كتاب لها. أتوقف، اليوم، أمام واحد منها متسائلًا:
أهي يقظة ضمير أم صرخة من قلب فجعته المأساة؟ أم يقظة بعد سبات طويل؟ 
تشير الدلائل إلى أن المؤلفة "حفيظة قارة بيبان" تسعى بما أوتيت من قوة وإرادة وأمل لأن تقف في وجه اليأس، وأن تصنع أملًا في سواد بهيم.
 صدّرت كتابها "أجمل الفضائح"، الصادر في تونس عن "الأطلسية للنشر"، بمقدمة وإهداء وسطرين لمحمود درويش.
أما الإهداء فأرسلته إلى "وائل"، الذي تعرّفه بأنه سألها ذات يوم في غضب "أليس الأدب فضيحة؟"
 وأما التقديم فللتعريف بما يحتويه الكتاب من صدق وألم المعاناة والاعتراف في مواجهة الواقع المؤلم، ولهذا جاءت أسطر محمود درويش في تقديم أخير: 
"سأعترف
بكل ما اقترف الفؤاد
من حنين"
وهل الحنين يستحق الاعتراف أو يحتاج إلى جرأة وهو الشعور النقي المتدفق من حنايا النفس إلى حنايا القلب؟
 لكن يبدو أن الزمن قد تغير ومعه تغيرت مشاعر الإنسان. 
أقف أمام هذا الموضوع الأول الذي يجمع بين النسيج الشعري والحكي القصصي في مسرودة عنوانها: "من وداعًا حمورابي إلى دروب الفرار".
تبدأ المسرودة بتاريخ محدد هو اليوم التاسع من أبريل/نيسان سنة 2003، اليوم الذي تم فيه سحل الإرادة العربية، يوم سقط نظام مخيف لتعيش أنظمة هزيلة.
 ذلك اليوم الكابوسي الذي انغرس كنصل حاد ساحق في القلب، هي تتحدث عن ولدها الذي لم تره، الطفل البغدادي الذي قطعوا يديه، وقتلوا كل عائلته، ولم تبق له إلا عينان تنظران، وهو الميت!
مات الطفل وسقطت بغداد. وأنتجت كتابًا جديدًا هو طفلها الجديد: كتاب "دروب الفرار"، فأي ولادة هذه ونحن نشيع في كل يوم قتيلًا أو شهيدًا!
يوم 9 أبريل/نيسان سنة 2003 هو يوم عيد الشهداء، ويوم ذكرى مذبحة دير ياسين، ويوم التبرع بالدم، ويوم دخول المغول بغداد بقيادة هولاكو في 7 صفر سنة 656 ه المصادف 1257، هو يوم مولدها ويوم مولد روايتها، فأي قدر ساخر يكتب هذه التواريخ التي تجمع الموت بالولادة؟
سقطت بغداد أو ما يطلق عليها "جنة الله" بالفارسية، فانتشرت سرادقات العزاء في الدنيا.. بسقوطها انتصر الجبن على الشجاعة. 
بسقوطها ازدادت الظلمة في العالم، وانحسر نور الأمل، وهرب المحار من البحار، ولم تبق إلا أصداف خاوية.
 تبقى كلمة السيّاب وهو يصرخ "عراق! عراق! ليس سوى العراق! فقد انتهت الحرب وسقط العراق! وسقطت اللغة! وتنفست العواصم العربية الخائفة الصعداء واستعد الجميع لتقاسم الغنائم المغرية، فهل اقتسم أحد غنيمة حرب؟ أم اقتسموا معًا مر الذل وبطش المغتصب الذي سرق الحاضر، وسرق المستقبل، ولم يقبل أن يترك لنا الماضي نحتمي به فسرق التاريخ، ونهب التاريخ الموضوع في المكتبات وفي المتاحف.. تاريخ الإنسان منذ شريعة حمورابي، فهل انتهى حمورابي؟ وهل قُتلت بغداد كما قُتل الحلاج؟ أم في مقتلها يقظة جديدة كيقظة طائر الفينيق الذي يحترق، ثم ينهض من رماده من جديد محلقًا في أجواز الفضاء.
 بكلمات الحلاج التي استعان بها على ألم القتل أستعين:
"يا معين الضنى علي ** أعن علي الضنى!
ليظل قلمي دومًا سلاحي وبقائي وخلودي!
 لأنهض من حريقي! من رمادي!
لننهض! لا بد أن ننهض رغم كل هذا الدمار!
أقلامنا لا تسقطي
ودمنا تدفق
لتكتب اللغة
وتعلو الشهادة
حتى تبقى لنا بعض الآمال، قد تحققها أجيال قادمة، لا تأخذها الهزيمة، فلا تودع مثلنا حمورابي، ولا تمضي إلى دروب الفرار".
ويبقى لنا مع بنت البحر "حفيظة قارة بيبان" لقاء آخر.