أزمة ثقة في السودان

مخاوف ومخاوف مقابلة تكمن لطرفي السياسة في السودان اليوم: القوى المدنية والمجلس العسكري.

قطع الشعب السوداني شوطا كبيرا نحو التغيير، وأكد قدرته على الصمود في الشارع بحثا عن نظام يملك صيغة مبتكرة للحكم تطوي مرارات صفحة قاتمة وتوفر متطلبات سياسية واقتصادية واجتماعية تحقق الأمن والاستقرار.

وصلت الحوارات التي تجريها قوى إعلان الحرية والتغيير مع المجلس العسكري الانتقالي إلى طريق لم يستطع كل طرف تحقيق أهدافه كاملة، ما يفرض على الجانبين ابداء قدر من المرونة للتوصل إلى قواسم مشتركة محددة تكون حاكمة للفترة المقبلة، بموجبها يتسنى تجاوز مطبات السنوات الماضية، وما أدت إليه من تقليل في معدل الثقة بين القوى السودانية.

تبدو المخاوف حاضرة في كثير من التحركات. كل طرف يخشى من تغول الآخر، ويريد الحصول على ضمانات تمكنه من عدم التعرض لخدع في منتصف الطريق. يعمل على تغليب الشكوك في معظم الخطوات التي يتخذها هذا الطرف أو ذاك.

وقد ترك الرئيس السابق عمر البشير إرثا خطيرا من فقدان الثقة بسبب المناورات التي كانت عنصرا رئيسيا خلال فترة حكمه، ومكنته من تفكيك جزء كبير في النسيج السياسي والاجتماعي للسودان.

ذهب البشير بعيدا عن السلطة ولم تسعفه مراوغاته في القضاء على القوى الحية في البلاد. وقع في الأخطاء التقليدية التي يقع فيها كل حاكم يتصور أنه قادر على الامساك بجميع خيوط اللعبة، وفي النهاية اجتاحه طوفان المظاهرات، ولم تفلح آلته الأمنية وحيله السياسية في تخطي العقبات، لكنها خلفت وراءها جبلا من الشكوك المتبادلة.

ظهرت معالم الهواجس في الحصيلة المتدنية للمسودات التي قدمها تحالف الحرية والتغيير، المعبر عن المعتصمين في الخرطوم، للمجلس العسكري وردود الأخير عليها، أو العكس. ولم تجد غالبية الأفكار السياسية التي طرحت من هنا وهناك صدى إيجابيا من الطرف المقابل، ما كشف أن حسن النوايا بات ضئيلا، والتفاهم عملية غاية في الصعوبة.

ترى فئة كبيرة من المعتصمين أن المجلس الانتقالي، كممثل عن المؤسسة العسكرية والشرطية، يجب أن يتنحى بعيدا عن السلطة ولا يشارك في الحكومة أو أي من السلطات التنفيذية والسيادية، ويصبح وجوده رمزيا، وفي حدود المهام الموكلة إليه وتتعلق بتوفير الأمن والدفاع عن البلاد، وكل دور يتجاوز ذلك يعني هيمنة غير مطلوبة.

لدى المتظاهرين موقف جازم من هذه المسألة ويتم التشديد عليه في جميع المناقشات، لأنهم يخافون من إعادة إنتاج نظام البشير، فلا تزال هناك الكثير من العناصر الوفية له في الجيش، بما جعل نتائج التجارب السابقة أشد حذرا في التعامل مع المؤسسة العسكرية التي تمتلك أدوات متشعبة تمكنها، من وجهة نظر المعارضة، من الالتفاف على مطالب المتظاهرين، وربما إجهاض الأحلام التي تولدت للتخلص من الطبقة التي حكمتهم على مدار ثلاثة عقود، وتركت خلفها روافد في الجهاز الإداري للدولة، أو ما يسمى بالدولة العميقة.

تطغى على رؤية القيادات الفاعلة وسط المعتصمين تقديرات مسكونة بشكوك حول علاقة المجلس العسكري بجهات خارجية، ويرون أنها تلعب دورا مؤثرا في توجهات الجيش، مع أن هذه التدخلات، إن وجدت، تصب في صالح المعتصمين، لأن الإشارات والتلميحات والتصريحات ذهبت إلى دوائر عربية معروف أن لها مواقف صارمة من الإرهاب والجماعات التي يتدثر بها، وهو ما يهدف إلى تجنب الوقوع في فخاخ إسلامية سابقة.

تم تسخير المخاوف بصورة زادت من الاحتقان في صفوف المعتصمين، لأن هناك دوائر تريد إرباك قوى إعلان الحرية والتغيير، وتعميق الشقوق بينها والمجلس العسكري الذي ينظر إليه بعض المتظاهرين على أنه لا يريد ديمقراطية للبلاد، وإن أرادها حاليا أو شدد عليها في خطاباته السياسية، فسوف ينقلب عليها لاحقا.

يدفع الشعب السوداني ثمنا باهظا لفترات خضع فيها للحكم العسكري، وكانت أكثرها قسوة الحقب الثلاث التي أحكم فيها البشير قبضته الأمنية، وأحدث فيها شرخا بين المواطنين وجيشهم الوطني، الأمر الذي ظهرت معالمه في تعثر المفاوضات بين ممثلي الحرية والتغيير والمجلس الانتقالي وتأخر الوصول إلى المربع الذي يقود للتفاهم الشامل بينهما.

تمتد الخيوط القاتمة إلى المجلس العسكري، حيث لا يثق بشكل كامل في قدرة قيادات المعتصمين على إدارة المرحلة الانتقالية بنزاهة وشفافية وديناميكية ليعبر السودان التحديات التي تواجهه ويصل لمرحلة الاستقرار التام، لأن المقومات العملية المطلوبة تنقصهم، والكفاءة والحنكة والحكمة لن تسعفهم، حيث تشكل تحالف المعارضة بسرعة ومن تجمعات مهنية وأحزاب سياسية متنوعة، بعضها لا يحمل ودا لآخرين، ما يعني أن اللحمة الوطنية قد تتحجر أمام المصاعب.

كما أن الطيف الواسع قد يحوي بين صفوفه مندسين ومتآمرين على الثورة، وشخصيات لها مآرب في التخريب. وليس من السهولة أن يسلم المجلس العسكري إدارة جميع الأمور لقادة يفتقرون إلى الخبرة الكافية في زمن تواجه فيه البلاد أزمات متراكمة في الداخل ومع الخارج.

تستند مخاوف المجلس العسكري إلى عدم استبعاد قيام فئة سياسية للعمل على اختطاف الثورة ومنجزاتها، وتفويت الفرصة على المواطنين الذين تمنوا بناء دولة على أسس جديدة تضمن لهم الحرية والوحدة والأمن والاستقرار.

ووسط التربص الظاهر من قبل حزب المؤتمر الوطني وذيول الحركة الإسلامية من الممكن أن تحدث مفاجآت غير سارة تقضي على المكاسب التي تحققت من وراء عزل البشير، وتضع المجلس الانتقالي في مأزق صعب، قد يفرض عليه خيارات قاسية.

تسبب عدم الثقة في اقتناع المجلس العسكري بأن الحكومة المدنية المتسرعة لن تستطيع مواجهة مشكلات تحتاج إلى قوة مادية ومعنوية، وقدرة على إدارة شبكة معقدة من العلاقات في الخارج، ناهيك عن تسكين الخلافات مع الجهات الناقمة على التغيير، وتطويرها مع الدوائر المتفائلة بترسيم البوصلة الجديدة للسودان.

إذا تجاوزت القوى السياسية والعسكرية محنة الثقة من الممكن حل الكثير من الأزمات، والتوصل إلى تفاهمات تزيل عقبات أدت إلى انسداد قنوات كانت قادرة على تحقيق الاستقرار، وتشكيل الحكومة، وتوفير الإدارة القوية للدفاع عن البلاد.