"أسرار حي أول".. إبحار الأدب الطريف في كهوف الإنسان

مجموعة رامي قطب تتأسس عبر فكرة فنتازية، تشكل الإطار السردي الكلي الحاكم لتدفق الوحدات السردية.
القاص يفصل إطاره القصصي في الاستهلال تحت وسم "مقدمة"، وكيف تقلص النيزك ليصبح قالب طوب فضائي يضرب بسرعة خارقة شقا أرضيا بسيطًا
أدب الخيال العلمي والفانتازيا، ودوره في استشراف المستقبل، وموقف النقد من الأدب النوعي

تأسس الكتاب السردي "أسرار حي أول" للقاص رامي قطب عبر فكرة فنتازية، شكلت الإطار السردي الكلي الحاكم لتدفق الوحدات السردية، وهي التي تنتظم الحكي، وتشكل – في تأويلي - الإختيار الفني، من حيث النوع الأدبي الذي تنتمي إليه الأسرار.
وجاء تلخيص الفكرة في الغلاف الأخير لظاهرة النيزك الخطير الذي ضرب مدينة طنطا لكنه لم يدمر الكرة الأرضية كما توقع الجميع، بل أحدث ظاهرة عجيبة غير مسبوقة، حيث اقتلع حي أول طنطا من جذوره الذى انقلب رأسا على عقب، وأصبح وهو مقلوبا السماء التي تظلل حي ثان طنطا، أما مكان حي أول فقد أصبح حفرة هائلة بعيدة القرار، وكما قال: "بالطبع كان الأمر مخيفا .. والليالي الأولى مرعبة"، ووضح الغلاف الأمامي الإطار القصصي بشكل مثير.
ثم فصل القاص إطاره القصصي في الاستهلال تحت وسم "مقدمة"، وكيف تقلص النيزك ليصبح قالب طوب فضائي يضرب بسرعة خارقة شقا أرضيا بسيطًا بشارع "البحر" وغاص بين حي أول ويقلبه فوق حي ثاني، وقدم السرد تفسيرا حول تنافر الجاذبية الأرضية بين الحيين ثم اتزانها أو تحقيق "المراجحة"، فلم يقترب حي أول أو يبتعد، وبقي معلقا كالثريا الهائلة فوق حي ثان. 
هذا الحدث الفنتازي أسس قيما وأحوالا جديدة، منها: السقوط إلى أعلى، وصناعة المواصلات الأنبوبية بين الحيين، والحبال الممدوة على بكرات تعمل بمواتير لتوصيل الأشياء، والطاقة التي انبعث من الاصطدام وأثرت بشكل مثير على كثير من الأشخاص والأشياء، ورواج أصابع الليزر ومناظير الرؤية المقرية، والأثر الأخلاقي عبر اختراق حرمة البيوت التي تكشفت لبعضها البعض من أسطح البنايات.  

novel
التناص مع نصوص شريفة 

وهنا نجد التباين في تصنيف الكتاب السردي كرواية في الترويسة الأولى للكتاب، بينما جاء العنوان الفرعي للعنوان الرئيس "مجموعة قصصية"، لكن أرى أنها "متتالية قصصية"، حيث هي مجموعة قصصية احتوت عددا من القصص تختلف في مضمونها وإن اجتمعت تحت مظلة فكرة واحدة تؤطرها، وتبث فيها عناصر مشتركة نبعت من خلال حدث الحدث الجسيم وتداعياته من قيم وعلاقات جديدة مؤثرة. بالتالي هي "متتالية" وفي قول نقاد: "المتتالية القصصية هي مجموعة قصصية تنتمي لمناخ نفسي عام واحد تحدث في زمان أو مكان محدد". 
وهي "قصصية" لأن اللحظة المشتعلة في رأى قطاع من دارسي القصة هي متكأ القصة القصيرة، حيث ما بعدها ليس مثل ما قبلها، فهي لحظة التغيير الحاد الذي يحقق الإبدال الخطر أو التهديد، - نموذجًا الحديث الآني حول عالم ما بعد كورونا والذي يختلف تماما عن عالم ما قبل الجائحة - والتغيير يعني المقاومة لأن الإنسان يخاف الجديد والمجهول، هنا الاكتشاف للذات وللصلات بالآخر معا، فالحدث المفصلي الهائل، والكارثة محك الذات الإنسانية، حيث تضعها تحت ضغط تخرج أثمن ما فيها، وأخبث ما فيها أيضًا، وتتوهج الدراما حينها.
ونجد في القصص تقدير أدب الخيال العلمي والفانتازيا، ودوره في استشراف المستقبل، وموقف النقد من الأدب النوعي، حيث الأديب أحمد إسماعيل بتعبير القصة يكتب هذا النوع المهم من الأدب (ص 83): "لكن الأدباء لطالما انشغلوا بما يعدونه أدب الكبار أو الأدب العميق"، وهنا المفارقة  حيث دور الجوائز في الترويج للنوع الأدبي – الرواية خاصة - وغياب النقد عن الأدب النوعي المهم لدرجة أن كاتبه يقول ضمنا في القصة "نقادي هم قرائي" فله الجمهور العريض الذي يغنيه عن النقد. والحقيقة أنه لا غنى عن النقد الأدبي، فهو ضوء لا سوط، وللناقد دوره المهم في الحياة الثقافية، والواقع يذكر أن العلاقة بين النقد والإبداع هو علاقة حضارية، تقوم على وجود المادة المتاحة للبحث، والقدرة على تقنين الدوافع وراءها، وقدرة البحث حولها وإنارة السبل إليها وتصحيح مسارها، أو على حد قول د. إبراهيم حمادة: "مثل علاقة الجسم البشري بنشاط البحث الطبي، والأجرام السماوية بنشاط البحث الفلكي، وظواهر البيئة بنشاط البحث الجغرافي ...". بالتالي النقد الأدبي ضرورة ولا غنى عنه، ولا تكفي مقولة "نقادي هم قرائي"، ونقدم ملحة أدبية من تراثنا النمير: "قال قائل لخلف الأحمر: إذا سمعت أنا الشعر واستحسنته فما أبالي ما قلت فيه أنت وأصحابك. فقال له: إذا أخذت أنت درهمًا فاستحسنته فقال لك الصراف أنه ردئ، هل ينفعك استحسانك له؟".

الفضاء المكاني يحتل أهمية خاصة في القصص، حيث يشكل معالم حقيقية لمدينة طنطا، حيث هي بتعبير القصص: "مدينة صغيرة مكتظة بالمعالم الدافئة تثير نهرا من الذكريات"

كما ضمت القصص لمحة مهمة حول تقدير "عين القاص الطوافة" ودور "الملاحظة" وأهميتها في لحظة الإضاءة الإبداعية، كما قال أستاذ موباسان عندما سأله عن درب الإجادة في الكتابة القصصية: "لاحظ ثم لاحظ ثم لاحظ"، تقول القصة (ص 84): "الفكرة موجودة، لكنها تحتاج فقط إلى من يلاحظها، والأفكار تتزاوج كما يقولون وتلد أفكارًا جديدة"، ووضح القاص عبر "الراوي" قناعه القصصى كيف واتته فكرة أسرار حي أول، حيث وجد عبارة في رواية تقول إن نيزكًا ضرب الأرض، ونظر الناس فوقهم ليجدوا، وهنا حضر الخيال بأن قطعة من الأرض انقلبت في السماء، فلما عاد للقراءة وجدها ليجدوا سحابة كثيفة من الدخان، وأن لحظة الإلهام اشتعل بريقها لدى التوقف عن القراءة في نفس تلك اللحظة، فأثمرت فكرة جديدة مغايرة.
ومن أسرار متعة "أسرار حي أول"، تثمير "الأدب الطريف"، وتقديم "الثيمات الموضوعية" في أطباق قصصية لذيذة من الدهشة، تحمل طابعها الإنساني، حيث تقدير وتثمين الإنسان نبات الياسمين، الذي يقدر الفطرة الراقية، ويثق بقلبه، تقول القصص: "عليكم أن تبحثوا في قلوبكم فالقلب لا يخطئ"، فجانب رعاية الإنسان أشرق في اختيار أسماء أعلام بشرية في ست وحدات قصصية، إضافة لأنسنة غير الإنسان، بين الحيوان والجماد والجان أيضا في شخصية "مبسوط" الجنى المنحوس. 
فهي قصص تقارب الإنسان وتبحر في كهوفه، وتقدم خصالا عدة لنفسية الإنسان بين الأنانية والاستغلال، والإيمان بالأمل والفعل المبادر، كما تطلق صيحة التحذير من قوة الضعفاء، ومخزون الغضب المطمور في النفس البشرية الذي يصبح قوة شريرة ساحقة، كما قدمت الإنسان النبات "البشر الورد"، وكفاح الظلام، ووصفت كنوز النفس من الذكاء والطيبة، ومآسيها أيضا في الانتفام والفساد. 
ووصفت القصص أخلاق الناس بين التكافل والنبل والعطاء "الناس الياسمين"، وبين الشح الشنيع: "فالناس يكرهون أن يدعوا لك شيئا طيبا ولو فكرة في خيالك" (ص 65). كما قدمت نقدات اجتماعية وأحوالا عامة في مواطن كثر من القصص. ورغم أن القصص فانتازية على مستوى الفكرة الكلية والأفكار الجزئية أيضا لكن تنتمى خلفيتها للواقع، كما قال (ص 81): "الروايات تعتمد أيضا على حقائق".
كما عمرت القصص بفكرة صناعة المصير بين مطرقة الاختيار الإنساني، وسندان عجائب الأقدار في مصائر الناس، فالوموي اثنان الصالح والطالح في قصة "عبدالله الوموي"، والجنين فتى أو فناة في رحلة العمر المعكوس، وأحمد الوزير "الثري" في مقابل عمرو عايد "المطحون" في قصة "سباحة في الفراغ"، والإقليم مقابل العاصمة، وهكذا. 

novel
الحس الساخر في القصص

كما ذاع الحس الساخر في القصص، نموذجًا  في قصة "مبسوط" يقول الجني: "عائلة أبي كلهم طيارون يركبون الريح ويصعدون إلى الفضاء، أما عائلة أمي فغواصون محترفون ما بين شرم الشيخ وترعة المرشحة". وهناك أمثلة كثر من حكي المحاكاة الساخرة بالقصص.
ويحتل الفضاء المكاني أهمية خاصة في القصص، حيث يشكل معالم حقيقية لمدينة طنطا، حيث هي بتعبير القصص: "مدينة صغيرة مكتظة بالمعالم الدافئة تثير نهرا من الذكريات"، وقد أحصيت (19) معلما عبر مسار الحكي، بما حقق واقع النصوص، وحيث الشخصيات القصصية فاعلة في ارتباطها الوثيق بالفضاء المكاني المحدد. 
كما حققت القصص التناص مع نصوص شريفة تتناول أمور اليوم الآخر، ففي قصة "عمرو هاني" حيث تدور فكرتها حول انقلاب الزمن ببطل القصة وعودته بالوراء، وكيف لو عدنا بالزمن لاصلحنا أمورا كثيرة، تناص هذا الموقف ضمنًا مع النص الشريف: "قال رب ارجعون لعلي أعمل صالحا فيما تركت"، وفي قصة "يمناها" حيث أصاب النيزك سكان شارع "حسان بن ثابت" بظاهرة غريبة جعلت أيديهم تتكلّم رغما عنهم، وأصبح لها أفواه دقيقة تتحدث بها، وذات شخصية مستقلة عن ذواتهم، كأنه يوم القيامة حين تشهد الأيدي والأرجل على أصحابها: "يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون". 
كما حققت القصص تماسّا مع آثار أدبية، واستدعت عندي عددا من النصوص، فالمؤتمر الثلاثيني الكلابي في قصة "ثق بقلبك" تذكرني بكلب كحكوح الراوي الرئيس في رواية "الشطار" لخيري شلبي. أما شخصية "عمرو هاني" التي عاد بها الزمن إلى الوراء، يقول راوى القصة: "في الشهور التالية كنت في بطن أمي أتأمل ما مضى وأسمع حديثها مع أبي، وأركلها أحيانًا" فذكرتني بالرواى الرئيس في رواية "مذكرات منحوس أفندي" للروائى وليد مدفعي الذي استمر يسرد حتى منتصف روايته في 75 صفحة، في زمن خطي يمضى إلى الأمام براوٍ "جنين" في بطن أمه حتى يخرج للحياة.  ونجد التناص على مستواه البكر من التضمين المباشر في رحلة العمر المعكوس، في قصة عمرو هاني للأثر الشريف: "لكنى آثرت أن إذا وجدت فسيلة أغرسها حتى لو لن أرى النتائج أبدًا".