أسلمة الأزمة التركية

الأزمة يمكن أن تصبح مقدمة لقيام أردوغان باستدارة قوية لإعادة النظر في بعض السياسات، من بينها فقدان رهانه على تيار الإسلام السياسي.

الأزمة الاقتصادية التي تمر بها تركيا لها أسباب موضوعية ناجمة عن جملة من السياسات الخاطئة اركبتها الحكومة، وأدت إلى نتائج سلبية أثرت على مكانة الليرة. وهي سابقة على العقوبات الأميركية الأخيرة حيال أنقرة، بمعنى أن الحديث عن مؤامرة تستهدف الدولة التركية هو من قبيل ابعاد المسئولية عن التوجهات التي يتبناها الرئيس رجب طيب أردوغان.

الأكثر فداحة أن الأزمة وجدت من يقفزون عليها ويضعون لها مساحيق إسلامية للحفاظ على تعاطف قطاع واسع من مؤيدي أردوغان في الداخل والخارج، الذي اعتبر الأزمة "هجوم على اقتصاد تركيا لا يختلف عن الهجوم على العلم أو الأذان"، كما وصفتها قيادات إخوانية بأنها "انهيار للدين الإسلامي، وتراجع الليرة سوف يتسبب في اغتصاب نساء المسلمين".

الحاصل أن الأسلمة جاءت من دوائر مختلفة ولم تأتِ من فراغ، لكنها حملت بين جنباتها أهدافا عدة. فأردوغان قصد من الربط بينها والأذان مثلا كعلامة إسلامية، استنهاض همم من لازالوا يدورون في فلكه، وحثهم على عدم التخلي عنه، والإيحاء أن تصوراته السياسية ذات الصبغة الإسلامية قادت إلى الأزمة، كنوع من الضغط عليه لتغيير توجهاته "المستقلة"، في محاولة لنفي التهمة عن ممارساته التي كانت سببا أساسيا فيها.

يبدو دخول الإخوان على الخط منطقيا في ظل المِحنة التي تعيشها الجماعة في دول كثيرة، ولا يتبقى أمامها سوى تركيا التي أصبحت الحصن الأخير للتيار الإسلامي، بعدما انفضت عنه غالبية الدول التي كانت تدعمه، أو على الأقل لم تعد تفاخر علنا بتأييده. وحدوث مكروه اقتصادي في تركيا قد تليه نتائج سياسية قاتمة، تجبر أردوغان على ادخال تعديلات على حساباته في بعض القضايا، بينها تحالفه الوثيق مع الإخوان، الأمر الذي جعل الجماعة تعتقد أن المبالغة في موالاته بالطريقة التقليدية التي تجيدها من قبيل النصرة.

لم تتعلم الجماعة من تجاربها السابقة، وتصمم على تكرار خطابها المزيف الذي لا تجيد غيره في الحشد، ولم تتقن التفرقة بين الدروشة السياسية والأسباب المنطقية للأزمة الاقتصادية، واعتبرت كل منهما سواء، لأنها تعلم عمق تأثير المداخل العاطفية مقارنة بالعلمية.

لذلك عزفت على الوتر الأول وتجاهلت الثاني، وحضت المسلمين تفضيل الليرة التركية على غيرها من العملات الأجنبية، ولم تعبأ بحجم الخسائر التي يمكن أن يؤدي إليها هذا التصرف لمن يستجيبون للنداء، فالمهم تظهر في الصورة، وتقحم نفسها في مشهد ترى أن وجودها ولو على هامشه يوفر لها مزايا سياسية.

الخطاب الزائف تعدى الحديث البسيط عن مساهمات الأفراد المنتمين للجماعة إلى دول ومؤسسات. فحجم الأموال الليبية القابعة في تركيا يصل إلى 30 مليار دولار، تصاعدت حدة المطالبات بتحويلها إلى الليرة، لأن جزءا كبيرا منها تملكه الدولة الليبية وخرج إلى تركيا خلال السنوات الماضية عن طريق عناصر إسلامية تمسك بتلابيب المصرف المركزي الليبي، وتتحكم في جزء كبير من حركة الأموال إلى تركيا.

اضفاء الصبغة الإسلامية جاء في وقت تعاني فيه جماعة الإخوان ومن يدورون في فلكها من مشكلات كثيرة، فوجدوا فيها ملاذا للالتفاف حول مظلومية جديدة، ترمي لتوفير مبررات لمؤازرة أردوغان، وتهدد من يستهدفونه في الولايات المتحدة أو غيرها، وأنهم من الممكن أن يتعرضوا لوسائل ضغط مالية من خلال عملية تحويل أموال سريعة إلى تركيا، وربما تحريض عناصر لاستنفار هممها وارتكاب جرائم عنف جديدة، على ضوء تعميم خطاب المؤامرة الغربية التي تريد الانتقام من النموذج التركي، الذي تحول إلى قبلة لكثير من الإسلاميين.

التجاهل المتعمد من هؤلاء لمناقشة أسباب الأزمة الحقيقية، يهدف إلى استمرار الهالة التي جعلت تركيا مثالا اقتصاديا عملاقا، وابعاد أي شبهة داخلية، يمكن أن تفرغه من مضامينه السياسية التي قام عليها، واستندت بالأساس إلى روشتة غربية-رأسمالية وليست إسلامية، بغية عدم التشكيك في جميع الطروحات التي تم تصديرها باعتبار أن أنقرة تحولت إلى عنصر جذب جراء توجهاتها الإصلاحية التي تنطلق من دوافع إسلامية.

التغطية على الجوهر الفعلي للأزمة لن يستمر طويلا، سواء واصلت الولايات المتحدة سياساتها العقابية أو استجابت أنقرة لمطالب واشنطن وهدأت العواصف المتبادلة، ففي الحالتين هناك أزمة اقتصادية محتدمة في تركيا، بحاجة إلى علاج هيكلي وليس مسكنات خطابية. فلا أحد ينكر قوة الاقتصاد التركي التي نهضت على أسباب علمية وليست دينية، لكن استكمال المسيرة الناجحة لن ينصلح بدغدغة مشاعر الناس والترويج لمزاعم كالتي تسوقها عناصر الإخوان، بل بخطط إصلاح تعترف بالواقع والعوامل التي أدت للأزمة.

الواضح أن التوجهات العدائية التي تضمرها تركيا لبعض الدول قد تتراجع، لأن أردوغان يخشى من تراكم الأزمات حوله، في وقت أصبح الداخل أشد احتقانا، عقب تبني مجموعة كبيرة من الإجراءات العقابية، أخذت أشكالا إقصائية متعددة، في الجيش والشرطة والقضاء والإعلام والتعليم، وباتت دول كثيرة في المحيطين الإقليمي والدولي، غاضبة من أنقرة، ما يتطلب الإنحاء للرياح الاقتصادية قبل أن تصطحب معها روافد أمنية وسياسية.

ما لم يعيد أردوغان النظر في ممارساته ويتخلى عن عجرفته الاقتصادية، سيجد نفسه أمام صورة سوريالية، تضطره لمزيد من الارتباك، لأن فرص مساعدته من قوى دولية محدودة، وهؤلاء لن يتحملوا نتائج الدفاع عنه أو مساندته، إذا قرر الرئيس الأميركي دونالد ترامب المضي في مخططه العقابي الذي يمكن أن يضاعف من عمق الأزمة التركية.

محاولة الأسلمة جاءت في البداية لامتصاص الأزمة وتأكيد التضامن مع أردوغان، مثل الدعم الذي أظهره أمير قطر تميم بن حمد، عندما وعد بضخ 15 مليار دولار دعما للاقتصاد التركي خلال زيارته لأنقرة مؤخرا، بينما عملية تحويل هذه الأموال من البنوك الأوروبية قد يستغرق وقتا ربما تتحول فيه الأزمة لوباء يصعب علاجه.

الواقع أن الأزمة يمكن أن تصبح مقدمة لقيام أردوغان باستدارة قوية لإعادة النظر في بعض السياسات، من بينها فقدان رهانه على تيار الإسلام السياسي، والتفرغ لسد الثغرات التي يعاني منها الاقتصاد قبل أن تجرفه رياح الأزمات المتراكمة. أما إذا جرى التصميم على عدم الاعتراف بالأبعاد الحقيقية للأزمة وعدم إصلاح زوايا الإعوجاج سوف تواجه أنقرة مصيرا غامضا.