أسماء معيكل: شخصياتي النسوية كلها تعرضت للقهر والاغتصاب ولكنها لم تستسلم

الروائية السورية في روايتها "تلّ الورد" تضعنا في قلب المأساة السورية، وذلك من خلال رؤية ملحمية حافلة بالشخصيات والأحداث والتقلبات.
ما حدث ويحدث في سوريا يحتاج إلى فن يحيط بجوانبه التفصيلية، ومن الطبيعي أن تتسع الرواية لذلك بينما يضيق الشعر عنها
الأحداث التي عصفت بسوريا أفرزت عددا كبيرا من الروايات

تقدم الروائية والناقدة السورية د. أسماء معيكل روايتها الثانية "تلّ الورد" لتضعنا في قلب المأساة السورية، وذلك من خلال رؤية ملحمية حافلة بالشخصيات والأحداث والتقلبات ترتكز على واقع البلاد وما جرى من تهدم في جسدها وجسد أبنائها، حيث تتبع حياة عائلة السيد راغد المعرّاوي وزوجته حسيبة اللاذقاني، وأبنائه عمران وربيع وباهرة، وكنّته كافي زوجة عمران وحفيده حيّان، وكيف كانت تعيش في قرية افتراضية تدعى "تلّ الورد" حياة مطمئنة هادئة، ما لبثت أن اضطربت لتتشظى العائلة ويلقى أفرادها مصائر متقاطعة تشبه مصائر الشخصيات في الملاحم القديمة.
الرواية الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، جاءت في حدود أربعمئة صفحة موزعة على تسعة فصول لافتة بعناوينها "جنّة الورد، ربيع بلا زهور وهجرة الطيور، في بيت آل عثمان، هبّات ساخنة، الجنون والعبور إلى أرض الأحلام، الدكتور، جواز سفر إلى الجنة، العودة: هوب..هوب، حبطراش".
حول فكرة الرواية والوقت الذي استغرقته معيكل في كتابتها، وبخاصة أنها وقفت على مصائر كثير من الشخصيات التراجيدية فيها، قالت "بدأت فكرة الرواية منذ أمد بعيد، فعمرها سبع سنوات، أي يوازي عمر الحرب الأهلية والفوضى التي ضربت سوريا منذ ربيع 2011، فقد شهدتُ بدايات الأحداث بنفسي، منذ أن بدأت المظاهرات السلمية، مرورا بتسليح الثوّار، وانتهاء بالصراع الدموي الذي أهلك البلاد والعباد، كنتُ وسط الأحداث، وأنا أتنقل يوميا بين مدينتي حلب وإدلب لأداء مهامي الأكاديمية والإدارية في جامعة حلب التي لها فرع في إدلب، فأرقب ما يجري، ودرجت على تسجيل بعض اليوميات، وحينما ابتعدت عن بلادي، صارت الفكرة أكثر إلحاحا، غير أنني لم أستطع الشروع في الكتابة وأنا في حالة انفعال شديد، كنت أدرك بوعي الكاتب أنها ستحول دون رؤية واضحة وموضوعية لما يجري، فلذت بالصمت، لكنني لم أتوقف عن التفكير فيما يجري، عشت الأحداث في صحوي ونومي، وما بينهما حينما كانت تهاجمني حالات الأرق المضنية فتحرمني النوم، وعشتها في كوابيسي وأحلامي التي درجت على تسجيلها. 
لم أكن أرغب في كتابة رواية تسجيلية أو وثائقية عن الأحداث في بلادي، وهذا ما أخّر شروعي في الكتابة. حينما شعرت أنني أصبحت قادرة على الفصل بين انفعالاتي بما يجري وبين ما أريد الحديث عنه في روايتي بدأت بالكتابة، وقد استغرقت كتابتها فعليا ما يقارب السنتين بما فيها عمليات التحرير والتدقيق، والحال هذه، فيمكن القول بأن هذه الرواية قد استغرقت من بدايتها فكرة إلى إبصارها النور عملًا منشورًا، سبع سنوات عجاف".

قرية افتراضية عنوانا للرواية

غلاف تل الورد
فكرة الرواية بدأت منذ أمد بعيد

وأوضحت معيكل "لعلي لا أكتمك سرا إن قلت لك بأن هذا العنوان قد خطر لي في الحلم، ففي الوقت الذي كنت فيه مهمومة بالرواية وأحداثها وشخصياتها، صحوت ذات يوم على حلم رأيت فيه عنوان روايتي (تل الورد) ولم أكن أعلم بوجود مكان بهذا الاسم، فرحت أبحث عنه، وعثرت على قرية حقيقية تابعة لمدينة حمص في سوريا اسمها تل الورد، وقرية بالاسم نفسه تابعة لكركوك في شمالي العراق، وحينما حددت الموقع الجغرافي لهذه القرية جعلتها في شمالي سوريا، فروائيا يمكنك أن ترى هذه القرية في شمالي سوريا، ولكنها في الواقع موجودة في مكان آخر. لم يكن يعنيني حقيقة وجود هذه القرية أو عدم وجودها، بل أردت من جعل القرية الافتراضية مكانا لانطلاق الأحداث لما تحتويه القرية والريف عموما على دلالات رمزية عن النقاء والطهر والبراءة والصفاء والجمال والهدوء والدعة، والحياة البسيطة، وكيف سينقلب كل شيء رأسا على عقب بفعل الأحداث الملحمية التي ستعصف بهذا المكان لتغير ملامحه بشكل كلي. لتصبح تل الورد رمزا لسوريا والعراق وفلسطين واليمن وتونس والجزائر والسودان وكل البلدان العربية وغير العربية التي دمرتها الحروب والصراعات والنزاعات المذهبية والطائفية والعرقية، وانتهكت براءتها. أحداث روايتي كناية عما يدور في بلادي".
وحول ضخامة الرواية مع وجود إمكانية كتابة ثلاثية روائية تخفيفا على القارئ خاصة أن الرواية لم تكن فقط سيرة عائلة، ولكن تحولات مأساوية في الوضع العربي ومواطنه المغلوب على أمره، قالت معيكل "أتفق معك في أن روايتي ليست سيرة عائلة بعينها، بل هي تحولات مأساوية لما يجري ولما هو عليه الوضع في الوطن العربي وما يعانيه المواطن المغلوب على أمره، وكل شخصية من شخصيات روايتي وكل فصل من فصولها يصلح ليكون رواية كاملة، وإذا كانت روايتي موزعة على تسعة فصول، فهذا يعني أننا أمام رواية في تسعة أجزاء، لكنني لست مع كتابة رواية في أجزاء، ولا أرى أن ذلك يخفف على القارئ، فما قمت به ربما يكون أفضل بالنسبة إلى القارئ الذي قدّمت له نماذج مكثفة، فكل شخصية من شخصياتي هي نموذج يمثل فئة كبيرة من الناس، ويمكن للقارئ أو المتلقي أن يلمح طيفه في مكان ما ويرى نفسه في أحد تلك النماذج". 
ورأت معيكل أن غياب ملامح أمل في الخلاص بداية من الاغتصاب والقتل والهدم، وانتهاء بالخراب أن الإجابة عن هذا السؤال واضحة، فمن جهة واقعية لا يوجد هناك خلاص أو أمل فيه يلوح في الأفق، بعدما تكشفت الأحداث عن أن كل ما جرى من أحداث مأساوية في سوريا وغيرها من البلدان العربية لم يسفر عن شيء سوى مزيد من الدمار والهلاك الذي لحق بالبلاد والعباد، ومن جهة تخييلية لا يمكنني تلفيق خلاص مضلل، أو حتى الإيحاء بأمل بعيد المنال، وإن كنت أحلم يوما بأن أكتب رواية تبدأ بالحبطراش الذي آلت إليه بلادي، أي بالدمار الذي لحق بها، وتنتهي بتل الورد الذي كانت عليه قبل أن تعصف بها تلك الأهوال. 

الحراك النقدي انحسر قليلا ولم يعد كما كان عليه الحال في السابق، فكمّ الدراسات النقدية لا يتناسب مع غزارة المنتوج الإبداعي ولا سيما الرواية

وأكدت معيكل أن الأحداث التي عصفت بسوريا أفرزت عددا كبيرا من الروايات، التي تناولت مختلف القضايا المتعلقة بالحرب الأهلية في سوريا من موضوع الثورة والمظاهرات والاعتقالات والتعذيب في السجون، إلى تعرية الاستبداد والحفر في جذوره وتاريخه القمعي، إلى قضايا الهجرة والنزوح، إلى أحوال الناس ومعاناتهم في ظل الحرب، ومأساة المرأة وما تعرضت له من عنف واغتصاب، إلى الحديث عن التطرّف الديني والمذهبي، وإعادة عجلة الزمن إلى الوراء لتطفو مظاهر جديدة على السطح من قبيل إقامة الحدود وبتر الرؤوس وسبي النساء، وغيرها كثير. إذ نشط المشهد الروائي على حساب تراجع الشعر، ولعل هذا الأمر مسوغ، فما حدث ويحدث في سوريا يحتاج إلى فن يحيط بجوانبه التفصيلية، ومن الطبيعي أن تتسع الرواية لذلك بينما يضيق الشعر عنها. لكن يمكن القول بأن بعض تلك الروايات كانت متعجلة ولم تخرج عن نطاق التسجيل والتوثيق الصحفي، وبعضها الآخر كان منحازا أو متحمسا لرؤية ما، وبعضها لم تكن رؤيته واضحة، وغالبا ما يحدث هذا حينما تكون الكتابة موازية للحدث، فلا بد من وجود فاصل بين زمن الأحداث الفعلية وزمن الكتابة السردية ليصل الكاتب إلى رؤية موضوعية لما يجري، لأن "شدة القرب حجاب" كما يقول ابن عربي.
وأشارت معيكل إلى أن الوضع العربي في حالة مزرية أكثر مما هو الحال عليه في التخييل والرواية! لقد فقدنا اليوم كل المكاسب التي اعتقدنا لفترة طويلة أننا قد تحصّلنا عليها وصارت جزءا من حياتنا من تحضر وتمدن وتسامح وتقدم وازدهار وتحرر المرأة، إذ كشفت الأحداث التي عصفت بالعالم العربي تحت مسمّى "الربيع العربي" عن الجهل والتخلف والحقد الذي يعشش في العقول والنفوس، والذي ما لبث أن عبر عن نفسه على شكل عنف مفرط حالما أتيحت له الفرصة، فحلّ التشدد والتطرف، وظهرت العقلية الجاهلية في السلب والنهب والانتقام والثأر، وعاد زمن السبايا والجواري، ونصّب كل فرد نفسه حاكما بأمر الله يضيق الخناق على العباد، ويتجرأ على الفتوى، فيكفّر من يشاء ويقيم الحد على من يشاء، وضربت الحدود مرة أخرى على المرأة بعد أن ناضلت زمنا طويلا لتحطيمها والخروج عليها.  

غلاف الرواية
يتساقطون واحدا تلو الآخر 

لا أريد أن أكون متشائمة، لكنني أجد أننا دخلنا في نفق مظلم الله وحده يعلم متى سنخرج منه، والمواطن العربي عموما والمثقف على وجه الخصوص فقد الأمل حتى في أبسط أحلامه، فحتى حلم المرء في أن يدفن في وطنه لم يعد ممكنا! يمكنك أن ترى كيف تناثر كبار المثقفين والمفكرين وآلاف البشر في مختلف أرجاء العالم، وكيف يتساقطون واحدا تلو الآخر في الفيافي والمنافي في غفلة من العالم المنشغل بالحروب والصراعات والأطماع والأحقاد، فلا يجدون من يقف دقيقة صمت على أرواحهم، ويدفنون في أماكن لا يمكن الوصول إليها لتبقى أرواحهم هائمة على وجهها". 
 ولفتت معيكل إلى أنها حين شرعت في كتابة "تل الورد" حاولت الانفصال عن تجربتها النقدية واهتماماتها بالدراسات النسوية؛ وقالت "فعلت ذلك خشية أن يمسخ الحس النقدي شخصياتي فيجعلها شخصيات جامدة ومجردة بلا روح تنطق بأفكاري، وجعلتها من لحم ودم تعبر عن نفسها، وكثيرا ما كانت الشخصية هي التي تقودني لا أنا من يقودها، فهناك شخصيات نمت وسارت في خط لم أكن قد حدّدته لها، ولكن هذا لا يمنع من وجود آثار لوعيي النسوي تحديدا الذي جعل شخصياتي النسوية كلها تعاني من القمع الذكوري، بعد أن أصبحت المرأة في ظل الأحداث المأساوية مجالا لتصفية الحسابات والانتقام بين الأطراف المتصارعة، فشخصياتي النسوية كلها تعرضت للقهر والاغتصاب، ولكنها لم تستسلم وقاومت حتى النهاية، فحسيبة اللاذقاني، احتجت على قهر ابنها المتطرف لها بإجبارها على الاستتابة بمسحه من ذاكرتها وأوقفت الزمن عند مرحلة ما قبل الاستتابة، وأعلنت أنه ليس لديها ابن اسمه ربيع، وأنها لم تنجب سوى عمران وباهرة. 
أما باهرة التي انتهكت حرمتها من قبل مجهول بعد اختطافها، فقد جعلتها تتعرف على مغتصبها الذي أوصى أخوها ربيع بزواجها منه بوصفه مجاهدا، إذ تعرفت عليه في ليلة الزفاف، وانتقمت لشرفها بطعنه بخنجره الذي دسه تحت الوسادة، ثم ألقت به بمساعدة والدها الصامت في غيابة الجب. 
أما كافي التي تعرضت لاغتصابات متكررة آخرها كان تصفية حساب وانتقام من زوجها الذي تشاجر مع عامل تركي، فخطط ذلك العامل مع رفيقين له لاغتصابها انتقاما، فقد كانت ردة فعلها في أن صارت عصية حتى على زوجها. بل إن النساء في تل الورد حلّلن مكان الرجال في أعمال كثيرة بعد أن خلت تل الورد من رجالها بسبب القتل أو الخطف والاعتقال، فصرن يقمن بمختلف الأعمال التي تصنّف على أنها أعمال ذكورية". 
ورأت معيكل أن اهتمامها بالنقد والنقد الروائي خصوصا بدأ مبكرا منذ كنت على مقاعد الدراسة في الجامعة، "ثم جاء تخصصي في مرحلتي الماجستير والدكتوراه في الدراسات السردية ونقد الرواية ليعزّز هذا الاتجاه عندي، لكن وعيي العميق بالتناقضات والثنائيات الموجودة في المجتمع منذ كنت طفلة صغيرة ولا سيما الفروقات بين المرأة والرجل، كان يشدني إلى الدراسات الثقافية والجندرية، ولذا وجدت نفسي أغوص في هذا المجال طويلا، ونتج عن ذلك مشروعي النقدي الذي استغرق سنوات من البحث الدؤوب والحفر عميقا في أحوال المرأة والمجتمع وإعادة تمثيل هذا الواقع من منظور السرد النسوي، لأصل إلى تفكيك المركزية الاجتماعية المتعلقة بهيمنة الذكورة واستبدادها، وظهور مركزية الأنوثة في المقابل، ثم تجاوز هذه المركزية فيما بعد والوصول إلى الاعتدال في التعامل مع هذه الظاهرة والإقرار بخصوصية كل من الذكر والأنثى بعيدا عن التفاضل، في كتابي "سيرة العنقاء، من مركزية الذكورة إلى ما بعد مركزية الأنوثة". 
وما يزال هناك الكثير ليقال فموضوع الدراسات الجندرية والثقافية يتجدد بتجدد مجريات الواقع والتحولات التي نشهدها على الأصعدة كافة في مختلف أرجاء العالم. أما ما يخص الحراك النقدي، فمن الواضح أنه انحسر قليلا ولم يعد كما كان عليه الحال في السابق، فكمّ الدراسات النقدية لا يتناسب مع غزارة المنتوج الإبداعي ولا سيما الرواية، وباتت الدراسات النقدية لصيقة بالمختصين أو لقضايا البحث الأكاديمي.