أشكال الصراع على شبه الجزيرة الكورية

فردوس محمد عبدالباقي تتناول العلاقات بين الكوريتين ومصالح القوى الكبرى.
الاتحاد السوفيتي اعتبر موقع كوريا الشمالية متميزا لمقاومة الأطماع الأميركية ونشر الأيديولوجية الشيوعية في آسيا
اليابان لها اهتمام تاريخي بمنطقة الكوريتين واعتبرتها مفتاحا لأمنها واستقرارها

بالرغم من التغيرات التي شهدها النظام الدولي بعد سقوط الاتحاد السوفيتي في تسعينيات القرن الماضي، ما زالت هناك مناطق محل تنافس وصراع بين القوى الكبرى في النظام الجديد، وتقع شبه الجزيرة الكورية ضمن هذه المناطق. بالإضافة لوجود أسباب داخلية تساعد في تشكيل طبيعة العلاقة بين الكوريتين، هناك عوامل وأسباب خارجية تظهر في تأثير القوى الكبرى، لأن هذه المنطقة تعتبر مجالا للتنافس بين قوى أربع كبرى، وهي الولايات المتحدة واليابان والصين وروسيا.
الكوريتان الشمالية والجنوبية ومدى أثر كل من الولايات المتحدة واليابان وروسيا والصين على العلاقة منذ 2005 حتى 2018، محور دراسة الباحثة السياسية د.فردوس محمد عبدالباقي "العلاقات بين الكوريتين ومصالح القوى الكبرى" الصادرة عن دار العربي للنشر. حيث رأت أنه منذ الحرب الباردة، كان يرى كل من القطبين أن هذه المنطقة ذات أهمية استراتيجية، فالولايات المتحدة رأت أن شبه الجزيرة الكورية بموقعها المتميز في أقصى شرق آسيا، وفي حدودها الشمالية الصين ومن الشمال الشرقي الاتحاد السوفيتي، ومن الجنوب اليابان، فهي موقع متميز لنشر القيم الليبرالية ومحاصرة المد الشيوعي في شرق آسيا، أما الاتحاد السوفيتي فقد اعتبرها موقعا لمقاومة الأطماع الأميركية ونشر الأيديولوجية الشيوعية في آسيا، وتعاملت روسيا فيما بعد في المنطقة بما يفيد مصالحها في مواجهة الغرب والولايات المتحدة، ولكنها في نفس الوقت تواجه ضغط ثنائية التعامل بين الكوريتين، حيث إنها في الوقت الذي مثلت فيه هي والصين السوق المفضلة للتجارة والاستثمار طويل الأمد لكوريا الجنوبية، تظهر علاقتها مع كوريا الشمالية التي تقف في طريق تطور تلك العلاقة، فهي تريد أن تحتفظ بعلاقتها مع حلفائها في مختلف مناطق العالم. 
أما اليابان، فنظرا لاعتبارات الجوار الجغرافي، كان لها اهتمام تاريخي بالمنطقة واعتبرتها مفتاحا لأمنها واستقرارها، إذ تتحكم كوريا الجنوبية في مضيق توشيما، والذي يعد الممر الحيوي للأسطول الروسي في منطقة الباسيفيك. وبالنسبة للصين، تعد هذه المنطقة البوابة الرئيسية لشمال شرق الصين، حيث تتصل معها جغرافيا بطول 600 كم، مما يدفع سياستها الخارجية باستمرار للحفاظ على استقرار هذه المنطقة بما يعود على أمنها واستقرارها.

إدراك كوريا الشمالية أن دخولها في حرب يعني انهيار تام للدولة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية

وأوضحت أن تشابك القضايا التي تثيرها تلك المنطقة ما بين قضية الوحدة الكورية والملف النووي لكوريا الشمالية والعلاقات الاقتصادية وغيرها، يؤدي لتشابك تأثير هذه القوى الأربع في التعامل معها، وطبيعة الاستقطاب الذي تقوم به لحفظ مصالحها هناك، فتعد كل من روسيا والصين المصدرين الرئيسين للمساعدة الاقتصادية والعسكرية لكوريا الشمالية، وفي نفس الوقت لا يريدان خسارة الفوائد الاقتصادية في علاقتهما مع كوريا الجنوبية. وتحاول الصين بقوتها الاقتصادية إرسال رسالة للعالم مفادها أن استقراره وربما استمرار النظام الرأسمالي العالمي، بات مرهونا بالدعم الصيني، ولكن هذا الوضع الاقتصادي الجديد أبرز أيضا مقدار التداخل بين مصالح الصين الاقتصادية ومصالح النظام الرأسمالي العالمي، ومن هنا أصبحت الصين قادرة على أن تلعب دورا في إنشاء نظام اقتصادي عالمي بديل، ذلك بالإضافة إلى أنها سعت لخلق مصالح مشتركة مع جيرانها وعدم الانجرار إلى تصعيد نزاعاتها الإقليمية إلى حروب. 
ومن ناحية تشابك العلاقات بين هذه القوى، فهناك قضايا سياسية دولية مشتركة بين الصين وروسيا مثل الملف النووي الإيراني والكوري الشمالي، والموقف المتحفظ من العضوية الدائمة في مجلس الأمن لكل من اليابان وكوريا الجنوبية، والملف السوري في السنوات الأخيرة، بالإضافة إلى أن اليابان لديها نفس الموقف المتحفظ من إحلال مجموعة العشرين محل مجموعة الثماني، والذي يجعل الصين معها في نفس المجموعة.
وتابعت د.فردوس أن كل من الصين واليابان كقوتين متنافستين تتشابهان في تلك المنطقة، مع ما حدث في دول أوروبا حيث منافسة القوميات في أوائل القرن العشرين، ثم تجاوزه فيما بعد، فيظهر نفس الأمر في منطقة شرق آسيا، حيث تنافس الأيدولوجيات الاقتصادية أكثر منها السياسية. ومثلما فعلت دول أوروبا لتجاوز هذا الحاجز، تم إنشاء اتحادات آسيوية بينية تقوم على أساس تشجيع النمو الاقتصادي وحل المشكلات السياسية، مثل اتحاد الآسيان، وبالتالي تم الوصول لمرحلة الإدراك أن الانخراط في صراع عسكري، سوف يهدم ما بنته تلك الدول لعقود طويلة قادمة، وبالتالي هناك سعي وبكل جهد لتجاوز الأزمات الصغيرة وحلها.
ورأت أنه بالنظر للأزمة الكورية المتجددة حول البرنامج النووي لكوريا الشمالية، يأتي تجددها من فشل القوى الكبرى في إدارتها، فالعقوبات التي يتم فرضها ليست وحدها هي الوسيلة للتعامل مع الأزمات، لأن هناك الكثير من الأمثلة التي استطاعت أن تتجاوز مسألة العقوبات مثل إيران، مما يقوي من دور كوريا الشمالية على مائدة المفاوضات، خاصة وأن كل من اليابان وكوريا الجنوبية لا تريدان الدخول في تنافس نووي لأنهما يقعان تحت حماية المظلة النووية الأميركية، حتى الصين، فهي دائما تسعى لإيجاد سبيل للسلام، وتدعو لدعم التعاون بين الكوريتين، وإدماج كوريا الشمالية مع الدول المجاورة في أنشطتها.
وفي شأن قضية الوحدة، أكدت د.فردوس أن الوضع المقسم للكوريتين هو الوضع الأمثل طالما يصب في مصلحة هذه القوى، فتمثل كوريا الشمالية منطقة عازلة من منظور الأمن القومي الصيني، حيث إن استيعاب الجنوب للشمال يعني احتمالية امتداد النفوذ الأميركي إلى نهر يالو، مما يشكل تهديدا على خليج بوهاي الذي يمثل أهمية كبيرة للأمن الصيني، فهي تفضل استمرار وضع التقسيم، طالما أن النظام البديل لم يكن تابعا لها. ونفس الأمر على الجانب الأميركي، تخاف الولايات المتحدة من أن تشكل الوحدة تهديدا على أمنها القومي بما يؤثر في توازن القوى في شرق آسيا، ولكن بروز كوريا الموحدة تحت الراية الجنوبية، سوف يكون عاملا للتوازن في المنطقة الآسيوية بين القوى العملاقة الثلاثة: اليابان والصين وروسيا، مما يؤدي لقلة التوترات العسكرية والسياسية في شبه الجزيرة الكورية، إذ سيتحول دور الولايات المتحدة للدعم وليس للقيادة، مما يخفف من وجود القوات الأميركية في المنطقة، فالهدف الأساسي للولايات المتحدة في المنطقة هو عدم ظهور قوة مناوئة أو معادية تسيطر عليها، مما يسهل وصولها للأسواق وحرية الملاحة وتشجيع التنمية في شبه الجزيرة الكورية، والسعي لكسب القوى الإقليمية في صفها كي تخدم مصالحها، بما يضمن ألا تكون هذه المنطقة مصدرا لتهديد مصالحها القومية.
يزداد الهدف الأميركي الأمني بالسعي لمنع الانتشار النووي ومكافحة الإرهاب، والسعي لاحتواء كل من الصين وروسيا وحصر نفوذهما إقليميا، وألا تزيد قوتهما إلى حد القوى العظمى، فهي تسعى لاحتواء كوريا الشمالية من خلال سياسة العصا والجزرة، والتلويح بإمكانية التعاون معها إذا تخلت عن برنامجها النووي، أو أن يتم تطويره للأغراض السلمية، لأنها تعتبر أن أمن كوريا الجنوبية جزءً من أمن اليابان الحليف والشريك الاقتصادي.
وهكذا يتضح أن هذه المنطقة من أكثر المناطق الصدامية بين توازنات القوى الإقليمية والدولية، وكل من هذه القوى يسعى لعدم الانجرار في حرب مباشرة أو غير مباشرة، إذ أن نشوب حرب يعني تحول المنطقة لنقطة صدام كبيرة، فكوريا الشمالية تمتلك ترسانة هائلة من الصواريخ الباليستية، إلى جانب قدراتها النووية، وكوريا الجنوبية تدعم قدراتها من الولايات المتحدة، وهو ما قد يستدعي تدخل تلك القوى.

ولفتت د.فردوس فيما يخص مستقبل التفاعلات الإقليمية والدولية في شبه الجزيرة الكورية إلى أن أهمية التحالف الكوري - الأميركي تتناقص بقدر تناقص الاعتماد الاقتصادي لكوريا الجنوبية، وتزايد اتجاهات الرأي العام الكوري الداعية لإعادة النظر في نمط علاقة البلدين، بالإضافة للتغيرات التي تشهدها الساحة الدولية في السنوات الأخيرة، وأن الولايات المتحدة لم تعد هي المهيمنة على النظام الدولي، لكن ذلك لا يعني انتفاء أهمية هذا التحالف لأنه طالما هناك هدف أساسي يدور حول وجود الولايات المتحدة كأداة للردع والدفاع عن كوريا الجنوبية ضد كوريا الشمالية.
وأشارت إلى أن إحدى الأطروحات الخاصة بمستقبل التفاعلات بين القوى المعنية في الدراسة في منطقة شبه الجزيرة الكورية، وكنتاج للتغيرات التي يشهدها النظام الدولي الحالي، تتوقع حدوث حرب في بحر الصين الجنوبي بين الصين كقوة صاعدة وبين الولايات المتحدة كقوة مهيمنة، وذلك على غرار ما يدور من أحداث فرعية تفجرت منها حروب عالمية كبرى، ومن ناحية أخرى ستكون سياسات تحديث وتطوير الأسطول الصيني للسيطرة على منابع النفط ضمن محفزات الصراع المحتمل بين الصين والولايات المتحدة والقوى الآسيوية المتحالفة معها خاصة اليابان، فالصين لا تستهدف الولايات المتحدة فقط في سياستها الخارجية، ولكن اليابان في المقام الأول بسبب الإرث العدائي بينهما، ويضاف إلى ذلك أن الولايات المتحدة لن تنسحب من المحيط الهادئ الذي يعد خط الدفاع المتقدم عن الأمن القومي الأميركي في مواجهة الصعود الصيني والتهديدات النووية لكوريا الشمالية.
وحول احتمالية نشوب مواجهة مسلحة في شبه الجزيرة الكورية رأت د.فردوس أن الحل السلمي للقضايا الدائرة في شبه الجزيرة الكورية تتوقف على مدى توافق موقف الصين والولايات المتحدة بالأساس، ثم اليابان وروسيا. وقالت "في حين تلوح الولايات المتحدة بفرض مزيد من العقوبات واحتمالية الرد العسكري، ترفض ذلك الصين وروسيا وتؤكدان ضرورة اتباع منهج التهدئة والتعاون مع كوريا الشمالية عبر المحادثات السداسية، فهناك تحليلات ترى إدراك الصين بأن الولايات المتحدة هي القادرة على تحقيق التقدم في المحادثات مع كوريا الشمالية عبر التفاوض الثنائي المباشر بينهما، بالإضافة إلى وجود بعض الآراء التحليلية التي استندت إلى وثائق ويكيليكس التي أشارت إلى أن تأثير الصين على كوريا الشمالية أصبح أقل بكثير مما هو مُتصَور، خاصة بعد التجربة النووية التي أقامتها كوريا الشمالية في 2009، واعتبار البرنامج النووي لكوريا الشمالية يمثل تهديدا لأمن العالم كله، وأيضا بعد الهجوم الذي شنته كوريا الشمالية على جزيرة "دايونبيونجدو" في 2010، وأنها على استعداد للقبول بوحدة كورية تحت راية كوريا الجنوبية.
وأضافت أن هناك مجموعة من الأسباب التي تقلل من احتمالية نشوب حرب في شبه الجزيرة الكورية، من بينها أولا: ليس من مصلحة روسيا أن يحدث هجوم عسكري على كوريا الشمالية، لأنه من السهل توسعه ليشمل شبه الجزيرة الكورية، بما يتسبب في عدم استقرار المناطق المحيطة، بما فيها أقصى الشرق الروسي. ثانيا: سيؤدي نشوب حرب إلى إخلال توازن القوى بالمنطقة، خاصة مع معارضة الصين وروسيا للنفوذ الأميركي بها، فسبق أن اعترضا على نشر الولايات المتحدة لمنظومة صواريخ "ثاد" في كوريا الجنوبية، لأنها قادرة على اختراق عمق أراضيهما ومن ثم تقويض أمنهما.
ثالثا: لم يكن عدم قيام الولايات المتحدة طوال الفترة الماضية بالتصعيد العسكري ضد كوريا الشمالية نابعا من خوف أو تخاذل، بقدر إدراكها للحسابات الإقليمية الخاصة بالخيار العسكري، لأنه يعد بمثابة انتحار جماعي لجنودها في كوريا الجنوبية، ففي أحد التقديرات الخاصة بعمل عسكري محتمل ضد كوريا الشمالية، فستحتاج الولايات المتحدة ما يزيد على 600 ألف جندي من كوريا الجنوبية ونصف مليون جندي أميركي، بالإضافة إلى أن العمل العسكري في شبه الجزيرة الكورية سيعمق الشعور العدائي نحوها، وكذلك فهي لن تكون قادرة على تحمل عواقب حرب جديدة خاصة من الناحية الاقتصادية، خاصة وأن لها جبهات عديدة مفتوحة في الخارج، فهناك تحذير وزير الدفاع الأميركي جيمس ماتيس من الخسائر المحتملة في حالة نشوب حرب مع كوريا الشمالية، لأنها ستكون حربا لم يشهد لها مثيل منذ الحرب الكورية.
رابعا: عدم رغبة اليابان في زيادة الضغط من أجل استخدام خيار القوة ضد كوريا الشمالية، لكن ذلك لن يمنعها من شن هجمات وقائية ضد كوريا الشمالية حينما شعرت بتهديد على أمنها القومي. خامسا: إدراك كوريا الجنوبية إلى أن اندلاع حرب يعني سقوط كل ما بنته من استقرار واقتصاد قوي. سادسا: إدراك كوريا الشمالية أن دخولها في حرب يعني انهيار تام للدولة في ظل تردي الأوضاع الاقتصادية والإنسانية. سابعا: الصين لن تريد نشوب حرب أو أي عمل عسكري على حدودها، واتضح هذا في مناسبات عديدة تحذر فيها الصين كوريا الشمالية من القيام بأي عمل متهور.