أشواقٌ صائمة في رمضان

الشاعر علاء الدليمي وجد مادة إلهامه من خلال أجواء شهر رمضان المبارك.
الشاعر يجب أن يمتلك عاطفة تتفجر من خلالها صورا شعرية تثير المتلقي وتكشف عن مكنونات القصيدة
الشاعر المبدع هو الذي يستطيع إثارة عواطفنا وإعجابنا حينما تكون عواطفه داخل النصّ صحيحة وقويّة ومستمرة وخصبة

السرد لا بقصد السرد، السرد الممانع للسرد، السرد لا بقصد الحكاية والقصّ، السرد بقصد الايحاء والرمز ونقل الإحساس والعاطفة. اللغة التعبيرية هي التحدّث بألم عميق، عن العاطفة، عن الواقع المرير، إنّه الكفّ عن التغنّي بالخارج ووصفه ومحاكاته، إنّها الإبحار إلى أعماق الشعور وإعلان الجوهر النقي للشعور والرؤية الصادقة. 
نورد هذه المقدمة لكي لا يتوهّم البعض ويفهم أن ما نقصده بالسرد الحكاية والقص، وكذلك التعبيرية لكي لا يتوهّم أيضا بأنها تعني التعبير والإنشاء، فالتعبيرية مأخوذة من المدرسة التعبيرية.
العاطفة من العناصر المهمة في الشعر السردي التعبيري، فالشاعر يجب أن يمتلك عاطفة تتفجر من خلالها صورا شعرية تثير المتلقي وتكشف عن مكنونات القصيدة حتى يستطيع كشف جميع الأشياء ومدى تأثره بها وتأثيرها على الآخرين. ويجب أن تكون عاطفته صادقة نابعة من أعماق وجدانه حتى تكون أشعاره خالدة وباقية، وإن صدقها (العاطفة) هو سرّ خلود الشعر وتناقله عبر الأزمان، فالشعر الخالد هو الذي يحمل ويحكي عن أحاسيس ومشاعر وعواطف صاحبه ويثير عواطف المتلقي ويجعله يتفاعل إيجابيا معه. 
والشاعر المبدع هو الذي يستطيع إثارة عواطفنا وإعجابنا حينما تكون عواطفه داخل النصّ صحيحة وقويّة ومستمرة وخصبة، وأن تكون خالية من المبالغة وأن تصدر من قلب مفعم بالعاطفة الجيّاشة والمرهفة لتدخل إلى قلب المتلقي كالينبوع العذب حين يغمر الأرض بعد طول جفاف وتصحّر. 
كلما كانت العاطفة قويّة حرّكت الأحاسيس والمشاعر، وهي تعتمد على طبيعة الشاعر وقوة مشاعره التي من خلالها نتذوق الشعر ونتفاعل معه، وكلما ضعفت عاطفته جاءنا النصّ باهتا لا يثير عواطفنا. والعواطف تتنوع، وتتنوع قوتها فمنها ما يستلهم المشاعر الطبيعية والحقائق وبعضها يكون مصدر قوته الحواس الظاهرية وبعضها قوة الشخصية وغيرها. كثيرا ما نجد في النصوص فكرة رائعة لكنها تفتقد إلى العاطفة الحقيقية والقوية، البعض يستطيع أن يكتب ويؤدي أفكاره واضحة دقيقة بسبب حسن تفكيره وسلامة لغته، لكنه لا يستطيع تصوير عاطفته القوية داخل النصّ لضعف اللغة لديه وسوء في فن التعبير، فتكون هذه النصوص ناقصة الجمال والروعة والدهشة. 
يجب أن تكون العاطفة مستمرة داخل النصّ وثابتة، أي أنها لا تخدع المتلقي، فيحسّ بأنها مشتعلة ثم سرعان ما تخمد وتتلاشى ويضيع أثرها وتأثيرها. يجب أن تبقى العاطفة مستمرة في نفس الشاعر مادام يعيش أجواء النصّ كي يبثّ عواطفه الصادقة ومشاعره من خلال المفردات والألفاظ فنجدها مشحونة بالانفعالات، وكلما كانت المشاعر صادقة وعذبة وخصبة ومتنوعة تمكنت من إثارة العواطف والمشاعر لدى المتلقي كانت أقدر على إنجاز مهمتها ولامست شغاف الروح وتأخذنا إلى فضاءات أخرى، وكلما توالت العواطف والمشاعر في زخم قويّ ومنوّع ستشعل فينا جذوة تستعر لا تنطفىء بسهولة، أما إذا جاءت تتراوح ما بين القوة والضعف فإن هذه الجذوة ستنطفىء وتذبل شرارتها وتموت القصيدة. ومن الضروري أن يتميّز الشاعر بقاموس مفرداته الحسيّة والشعورية وأن تظل تتدفق حيوية حميمية مشرقة من البداية إلى نهاية النصّ.

كل مفردة لها دلالاتها التي خلقت حالة من التوتر والصراع المحتدم في وجدان الشاعر نتيجة لجموح العاطفة

من خلال العنوان "أشواقٌ صائمةُ" للشاعر علاء الدليمي، سنجد العاطفة حاضرة متمثلة بمفردتي (الأشواق / الصيام) بالإضافة إلى الخيال والانزياح اللغوي، هذا العنوان منح النصّ جوا مشبعا بالمشاعر المتأججة،  يوحي بغرابة اللغة الخصبة القادمة من أعماق الذات الشاعرة مصحوبة بالإيحاء الذي يثير في النفس مزيجا من المشاعر والأحاسيس، ويضفي عاطفة تتأجج، وهذا ما سنلاحظه عند قراءتنا.
يبدأ النصّ بتدفق وجريان الأشواق من داخل الروح عن طريق لغة خصبة مشبعة بالإيحاء والحنين والمشاعر: "عندما تفيضُ الأشواقُ تغتسلُ الروحُ بمعانقةِ طيفكِ"، حيث التعبير عن خلجات الروح بمقطع نصّي متماسك وأنيق ومفردات مشحونة تمّ اختيارها بدقّة وعناية، مفردات نتناولها يوميا في حياتنا ومعاملاتنا لكن الشاعر استطاع أن يرتفع بها عاليا ويمنحها سحرا وجمالا غير مألوفين على أرض الواقع، ويستمر تدفق العواطف تقرع أبواب القلب كما في هذا المقطع "لهيبُ الظمأ المستعرِ داخلَ حجرة النبضِ لا يُروى إلا بأوكسجينِ ثغركِ يحررُ قلبهُ بقبلةٍ للإنعاشِ" حيث نجد الاشتعال الشديد والمستمر في القلب بعدما امتلأ لوعة واشتياقا وهياما، والبحث عن متنفس يقلل هذا الاحتقان العاطفي كي يطفىء هذه الحرائق.
لقد كان الشاعر موفقا في رسم هذه الصورة الشعرية العنيفة عن طريق اختياره للمفردة المناسبة حتى تكون متلائمة مع أجواء الصورة الشعرية في هذا المقطع. وهنا يتطرق الشاعر إلى مسألة فقهية اختلف فيها الفقهاء ويقحمنا في أجواء الاختلاف، أجواء توحي بالخشوع والصبر والزهد، فكانت اللغة تعبّر عن ذلك أصدق تعبير وكما في هذا المقطع "دونَ غبارٍ كثيفٍ يسري في الروحِ كـ سيجارةٍ في نهارِ الصومِ أختلفَ في أمرها الفقهاء ولكنَّ قلبي أفتى بجوازِ رشفِ أنفاسكِ مادامت بقصدِ إنقاذ نفس من الهلاكِ". لقد ترجم الشاعر عواطفه ترجمة دقيقة مستعينا بطاقات اللغة وسحرها، فالألفاظ هنا لا تنكرها الأذن لأنها مشعّة. 
ويختتم الشاعر نصّه بهذا المقطع "لا يهم ما قالهُ المتشددونَ عن الأثمِ فخدكِ السمحُ كُفارةٌ والصومُ عن النظرِ لبديعِ خلقِ اللهِ لا شكٌ من أكثر المحرماتِ"، فنجد هنا حالة من الصراع النفسي تمثّله العبارات (المتشددون / الأثم / كفارة / الصوم / النظر / الله / شكّ / المحرمات). فكل مفردة لها دلالاتها التي خلقت حالة من التوتر والصراع المحتدم في وجدان الشاعر نتيجة لجموح العاطفة، وهذا ما جعل النصّ يحمل كل هذا التوهج والغرابة والدهشة عن طريق بناء وحدات نصّية رصينة مهذّبة متماسكة. فالشاعر وجد مادة إلهامه من خلال أجواء شهر رمضان المبارك، استطاع عن طريق اللغة والإيحاء والعاطفة والخيال أن يصنع لنا الشريط الملوّن من الصور الإبداعية .
النصّ :
عندما تفيضُ الأشواقُ تغتسلُ الروحُ بمعانقةِ طيفكِ، لهيبُ الظمأ المستعرِ داخلَ حجرة النبضِ لا يُروى إلا بأوكسجينِ ثغركِ يحررُ قلبهُ بقبلةٍ للإنعاشِ، دونَ غبارٍ كثيفٍ يسري في الروحِ كـ سيجارةٍ في نهارِ الصومِ اختلفَ في أمرها الفقهاء، ولكنَّ قلبي أفتى بجوازِ رشفِ أنفاسكِ مادامت بقصدِ إنقاذ نفس من الهلاكِ، لا يهمُ ما قالهُ المتشددونَ عن الأثمِ فخدكِ السمحُ كُفارةٌ والصومُ عن النظرِ لبديعِ خلقِ اللهِ لا شكٌ من أكثر المحرماتِ .