أصوات ترفض الصمت في "الراديو"

مسرحية "الراديو" صرخة بوجه الخراب، وكأن المسرح كله يكرر أبيات كين سارو-ويوا من إحدى قصائده الرافضة للصمت بوجه الفساد وتداعي القيم.
عند استباحة الأرض وإفساد هوائنا النقي وعندما تختنق الجداول بالدنس سيكون الصمت خيانة
اختيار مسرحية "الراديو" يُعد قرارا  ذكيا وهادفا 
اختيار تقنيات وعناصر إخراجية في تجسيد موضوعة العرض

في حديث لإحدى الاذاعات المحلية في أبريل/ نيسان عام 2018، تطرقتُ لموضوع كنتُ ولازلتُ أعدّه جوهريا في نشر الثقافة ودوره في تحسين الذائقة الفنية عموما، والثقافة المسرحية على وجه الخصوص، مادامت محافظة بابل تزخر بعناصر إبداع ممتازة على صعيدي التأليف/الاختيار والتمثيل والإخراج الرائعين. استذكرتُ حديثي السابق وأنا أشاهد العرض الممتع  لمسرحية "الراديو" التي ألّفها الكاتب والناشط النيجيري كين سارو- ويوا، وأخرجها الفنان الاكاديمي المجتهد الدكتور محمد  حسين حبيب، وأدّى الأدوار فيها أحمد عباس ومحمد حسين حبيب ومجموعة من الفنانين المقتدرين حقا. 
عُرِضَت المسرحية على خشبة مسرح كلية الفنون الجميلة ابتداء من الأول من يونيو/حزيران والايام التالية. ولاقت إعجابا وتثمينا كبيرين؛ لأنه ليس غريبا أن يجتهد محمد حسين حبيب في البحث والتقصّي عن نصوص عالمية وعربية ومحلية يُبدِع في توظيفها وتطويعها لمعالجة قضايا اجتماعية وسياسية وإنسانية تُعد مفصلية في العراق المعاصر. 
يُعد اختيار مسرحية "الراديو" قرارا  ذكيا وهادفا في الوقت الذي يشهد فيه العراق حالا لا يختلف عن أحوال نيجيريا أبّان الفترة التي كتب ويوا عمله من سوء الإدارة، والفساد المستشري في جميع مفاصل العمل، وتداعي أغلب - إن لم يكن جميع - القيم الأخلاقية والإنسانية بسبب إخفاقات السلطة في التعاطي بحكمة ووطنية مع قضايا المواطن. 
أفلح حبيب في تطبيق اختيار التقنيات والعناصر الإخراجية في تجسيد موضوعة العرض. كان الركون إلى التكثيف والرمز والإيحاء، وإلى براعة التعامل مع أدوات الإخراج طمعا في تحقيق ما هو "ممتع" و"مُبصّر" (وفق آراء الناقد الإنكليزي الدكتور صموئيل جونسون في مقدمته النقدية عن أعمال وليم شكسبير على اعتبار أنّ وظيفة المسرح هي "الإمتاع" و"التبصير".)، كان الركون إلى تلكما الممارستين ناجعا ومؤثرا في إثراء العرض المسرحي بعناصر إمتاع وتشويق واضحتين، ناهيك عن التوظيف الرائع حقا لعناصر الضوء الذي شمل حتى أرضية الخشبة: لقد طغى الإظلام على خشبة المسرح أغلب زمن العرض، ولعلّ الدلالة واضحة جدا في منح الفضاء المسرحي بأكمله محيطا قاتما يسهم في تعزيز توظيف عناصر الديكور البسيط لتجسيد الموضوعة.
إذا كان محمد حسين حبيب المخرج مجتهدا في توظيف ما يخدم معالجته من المدارس المسرحية (سواء أكانت البرختية أم اللامعقول)، وهو أمر يستدعي في ذاكرتي عرضه – إخراجا - لمسرحية "هاملت" عام 2008، و"تغريبه" للعرض بطريقة أمتعت طلبتي الذين كانوا يدرسون الأدب المسرحي الحديث بعد أن درسوا شكسبير من قبل في قسم اللغة الإنكليزية آنذاك وأفادتهم كثيرا؛ فهو أيضا ممثلا مسرحيا مبدعا يتمتع بمرونة حركة على المسرح مبهرة حقا؛ وهي تعيد إلى الأذهان مرونة الفنان الرائد الفقيد سامي عبدالحميد، الذي أهدى حبيب لروحه وذكراه هذا العمل حين اُفتتح العرض بالقول إن مسرحية "الراديو" تقدم وفاءً  إلى "[استاذه] أبدا: سامي عبد الحميد". 
لقد شكّل الممثل المسرحي محمد حسين حبيب مع الفنان أحمد عباس ثنائيا متناغما في إيقاع الحركة والصوت. كان الفنانان يتحركان بتلقائية جميلة التأثير والإيقاع، إلى درجة أنني - الذي يعرف حبيب عن كثب - ذُهلتُ من الشخصية التي أشاهدها في العرض: لقد أقنع الرجلان جميع المشاهدين بالأداء الذي يدعو إلى التقدير  والاعتزاز. ولعلّ ما استخلصته من حفيدتي ذات العشر سنوات التي رافقتني لمشاهدة العرض ما يؤكد القدرة العالية على التوصيل تمثيلا وإخراجا. فعند انتهاء العرض، توجهت بسؤال إلى حفيدتي لمعرفة مدى ما أدركَتهُ من العرض. نظرت إليّ حفيدتي (كما لو أنها تستنكر مثل هذا الاستفهام!)، وقالت جملة مختصرة من أربع كلمات فقط: "هي عن أوضاع العراق." أدركتُ حينها أنّ الفنان المبدع قد نجح بامتياز في إيصال خطابه للمتلقي دون تمييز ثقافي أو فني.

Iraqi theater
قدرات فنية رائعة 

إضافة إلى ذلك، يدعو مثل هذا النجاح والقدرات الفنية الرائعة ليس إلى الإعجاب فحسب، وإنما إلى الفخر بألم انحسار الاهتمام بالنشاطات المسرحية والفنية في مدينة لا تزال آثار "المسرح الروماني" ماثلة في مدينة بابل الآثارية. ففي مدينة تزخر بالقامات الفنية والأدبية والثقافية لا يوجد سوى مسرح واحد تم إعادة تأهيله في كلية الفنون الجميلة، وهو مسرح يحيل الإفادة منه ثقافيا بين شرائح المجتمع الحلي (خارج المؤسسة الجامعية) محدودا جدا بسبب موقعه ضمن مبنى الكلية مما لا يجعله متاحا للنشاطات المسرحية والفنية الأخرى، ناهيك عن تراجع دور الكوادر الفنية (من الأكاديميين) في لعب أدوارهم الثقافية المناطة بهم مهنيا واكاديميا تحت مسوغات لا تبدو حقا مقبولة، ولن تبتعد عن بعض "خلاف" (وليس اختلافا) قد يعصف أحيانا (بدرجات متفاوتة) بوجه رسالة الفنان. 
كما أنّ القاعة التي كانت تعود إلى نقابة الفنانين في بابل هي الأخرى قد خرجت عن الخدمة منذ الاحتلال الأميركي في عام 2003. يقينا، أنه لأمر محزن أن تتغاضى مشاريع الاستثمار الخاصة عن إنشاء مسارح (لأسباب متعددة)، ربما أهمها هو الخوف من عدم جدواها بصفتها استثمارا يمكن أن يُدرّ (أرباحا مادية!). من جهة أخرى، يلعب تراجع الإعلام عن الترويج لنشاطات الكلية والنقابات ذات العلاقة بالفنون الجميلة كلها، يلعب دورا في تحجيم مساحة اهتمام الجمهور وحضوره مثل هذه النشاطات. إنّ اقتصار النشاطات المسرحية والفنية بجمهور "نخبوي" يُقيّد مساحة التأثير ويحول دون وصوله إلى أكبر شريحة اجتماعية طمعا في تحسين الذائقة الثقافية والمسرحية والفنية عموما، وفي هذه الأوقات العصيبة، على وجه الخصوص.
وعودا إلى محمد حسين حبيب و"الراديو"، من الإنصاف لجهود الفنان المبدع حقا أن نقول الحقائق ذات الصلة بنشاطه الدؤوب. يفاجئ حبيب الجمهور والقراء على حد سواء ببحثه عن كل ما هو جديد في عالم الفنون والدراسات المسرحية، وهي حسنة كبيرة تحسب له حقا. 
كنتُ أتابع مقالاته حول "المسرح الرقمي"، الذي يعد جديدا على الساحة المسرحية العراقية. أتذكر قبل فترة وجيزة، وبفضل طروحات الفنان محمد حسين حبيب عن اشتغالات المسرح الرقمي، اهتديتُ إلى ندوة باللغة الانكليزية تناولت موضوع "التعددية والمسرح: ستراتيجيات التعليم والتطبيق"، في حقل المسرح الرقمي شارك فيها مهتمون ومتخصصون في المسرح الرقمي من جامعات أميركية متعددة. 
أحطت الأكاديمي محمد حسين حبيب علما بالندوة، وفعلا حضر الرجل أعمالها لكن ثمة حاجز خارج عن إرادته حال دون إفادته بشكل كامل منها، وهو حاجز اللغة. أغراني تمسّك حبيب بالموضوع وحرصه على تأمين الانتفاع مما جاء فيها على ترجمة أهم ما جاء فيها. كان الفنان/الأكاديمي محمد حسين حبيب على درجة عالية من الأمانة العلمية حيث أشار نصا إلى ما قمتُ به عند تناوله الموضوع في إحدى الصحف المحلية: تلك هي حقا سمات الأكاديمي الفنان في التعاطي مع عناصر البحث الأكاديمي.       
مسرحية "الراديو" صرخة بوجه الخراب، وكأن المسرح كله يكرر أبيات كين سارو-ويوا من إحدى قصائده الرافضة للصمت بوجه الفساد وتداعي القيم:
"عند استباحة الأرض / وإفساد هوائنا النقي / وعندما تختنق الجداول بالدنس / سيكون الصمت خيانة."