أقرضنا يوما من الــ21 فيحيا به لبنان

إن لم يخرج من بيئة المقاومة اللبنانية الجامعة بشير آخر، فلن يخرج من أي بيئة أخرى.
لم يكن بشير الجميل بكاء ولا شكاء ولا ندابا، لا حاسدا ولا حاقدا
حين يحلم الشعب اللبناني لا يفكر بدولة المائة سنة بل بدولة الـ21 يوما
لو كان بشير حيا لحوّل الانهيار نهضة والثورة حكما والدولة سلطة لا شريك لها

منذ أربعين سنة والبحث جار عن بشير الجميل. لم تعد تهم الناس معرفة من اغتاله، وقد عرفوا القتلة، بقدر ما تهمهم معرفة القادر على إعادة بشير. يحتاجون إليه، واشتاقوا إلى إيمانه وإلهامه، إلى قضيته ومشروعه، إلى شجاعته وإقدامه، إلى طلته ووقفته، إلى عبسته وابتسامته، إلى جاذبيــته وغمزته، إلى هيبته ووهرته، إلى وجدانه وشعوره الإنساني، إلى إرادته وصلابته وتأثيره الـممغنط. تصاعدت هذه المطالبة في السنوات الأخيرة، إذ تأكد الشعب أن لا يوجد بشير جديد، والبلاد تنهار ولا أحد يطمئن الشعب ويقول له: "الإنقاذ لي". الإنقاذ لا يحتاج إلى: "الأمر لي"، بل إلى: "الأمر لك أيها الشعب". وحده الشعب المقاوم في إطار أحزابه السيادية القديمة أنقذ لبنان منذ الاستقلال إلى اليوم.

في مراحل سابقة، شبه للبعض أنهم لـمحوا سيمات بشير في هذا أو ذاك. رصدوا الأداء. لكن، سرعان ما بان أن الـملمح كان سرابا، فصدموا وعادوا إلى كنف الحلم. الصدمة تحولت غضبا تشوبه سخرية حين أقدم بعض حديثي النعمة وقديمي النقمة ودائمي الشكوى وعديمي المقاومة على إيهام اللبنانيين بأنهم نسخة منقحة عن بشير، بينما هم نسخة مزورة عنه. لا توجد نسخ عن العظماء. في أقصى الحالات يوجد كاريكاتور.

إن لم يخرج من بيئة المقاومة اللبنانية الجامعة بشير آخر، فلن يخرج من أي بيئة أخرى. بشير بيئة نضال، لا نضال رجل فقط. في عصره كان الشعب عظيما. وكان كل متراس هو بيت الشعب. بيت الشعب لم يكن يوما قصرا. والقصر ليس قصرا ما لـم يعبر عن أماني الشعب وثوابته وأحلامه، وما لـم يكن جبهة دفاع عن لبنان حر، عن سيادة الدولة، عن سلطة الجيش، عن السيادة والاستقلال.

برزت أكثر من فرصة تاريخية ليطل بشير آخر، فلم يطل: لا بعد سقوط الجنرال عون وإدخال جيش الاحتلال السوري، ولا من ثورة الأرز، ولا بعد الخروج السوري، ولا من التصدي لمشروع حزب الله، ولا حين حصل شغور رئاسي، ولا حين انحرف مسار عهد ميشال عون، ولا حين انتفض الشعب في ثورة واضحة الأسباب وملتبسة الأهداف، ولا حين انهار البلد مؤسساتيا واقتصاديا. كل هذه الأحداث كانت تربة صالحة ليطل الزعيم المنقذ، أو على الأقل، الفريق المنقذ. فاتت اللحظة التاريخية ولم يخرج أحد عن التقليد والمألوف والرتابة. لو كان بشير حيا لحول الانهيار نهضة والثورة حكما والدولة سلطة لا شريك لها.

أما مر في بال السياسيين، لاسيما المسؤولون المسيحيون، أن يتساءلوا: "ماذا كان فعل بشير الجميل لو كان مكاننا في هذا الظرف؟" تتهيبون السؤال لأنكم تخافون الجواب: "كان فعل عكس ما أنتم تفعلون"، وأصلا لم تفعلوا شيئا سوى تقوية أخصام المشروع اللبناني. تصوروا بشير الجميل في عز المقاومة ــــ ونحن اليوم في حرب من دون مقاومة ـــ ينشغل بتدقيق جنائي ومماحكة القضاء، بمقعد وزاري وثلث معطل، بقانون انتخاب وانتخابات نيابية مبكرة، بإذن لإغلاق المعابر والحدود وقرار لإدارة المناطق الحرة، وبمرسوم لفتح الحوض الخامس ومرفأ جونيه. ما كان بشير ليطلب صلاحيات لأن المقاومة لا تحتاج صلاحيات، بل موقفا وطنيا شجاعا.

هكذا يكون قائد المقاومة ورجل الدولة. لم يكن بشير بكاء ولا شكاء ولا ندابا، لا حاسدا ولا حاقدا. كان أخا لجميع اللبنانيين ومحاورا جميع المكونات اللبنانية. كان أغنى الأغنياء لأنه كان يملك كل شيء إلا المال. ما كان بشير يشكو من أنهم منعوه من المقاومة؛ امتشق البندقية ومشى، وسار الشعب وراءه. ما كان بشير ليسمح بعدم تأليف حكومة، ولا لقريب ونسيب أن يقترب من مراكز الدولة. كان وريث الشهداء ومؤتمنا على روح ابنته الشهيدة مايا.

لدى انتخابه رئيسا للجمهورية، لم يقسم بشير على الدستور فقط، بل على أرواح جميع الشهداء وتضحيات المقاومة. أول جملة من خطاب القسم الذي لم يتسن له إلقاؤه هي: "أديت مضمون القسم، وها إني أتلو نصه. أديت مضمونه طوال ثماني سنوات المقاومة، وأتلو نصه في بدء ست سنوات الحكم".

صمم الرئيس بشير الجميل على تحويل الشراكة بين المكونات اللبنانية من الخبث إلى الصدق، والعلاقة بين المواطنين والدولة من الـنفعية الخاصة إلى المنفعة العامة. تعثر الميثاق الوطني بين الطوائف إذ كان ينقصه ميثاق مواز بين المواطن والدولة يضمن سلطة الدولة وقوة القانون. نوى بشير أن يحكم خارج لعبة الطوائف والصلاحيات والحقوق. ووظف انتصاره في مصلحة جميع اللبنانيين المسلمين والدروز والمسيحيين. حين التقى، بعيد انتخابه بأيام، بالزعيم الوطني صائب سلام، أصغى بشير إليه يعرض الغبن اللاحق بالمسلمين في مؤسسات الدولة المدنية والعسكرية، ابتسم بشير وقاله له: "صائب بك، إعتبر جميع مطالبك تحققت". اندهش الرئيس سلام وخرج من الاجتماع معجبا ومؤيدا ومادحا إياه في مجالسه.

عشية اغتياله، قال لي: "لن أدع المسلمين يطالبون بحقوقهم، أنا سأطالب بها عنهم وسأحققها لهم. الشراكة الوطنية تفوق كل اعتبار آخر، شرط أن تتم ضمن الولاء المطلق للبنان". هذا هو بشير الجميل لا الذي شوه صورته أخصامه وعملاء الاحتلال. لو كان بشير تقسيميا لما قاوم. التقسيم لا يحتاج إلى مقاومة إنما إلى استسلام فقط. وإذ تابع بشير المقاومة فلأنه رفض التخلي عن أجزاء من الأمة اللبنانية. إن التحرير هو السبيل إلى التعايش المشترك الحر والمتساوي في كنف الدولة.

مشروع بشير هو خلق بنية تحتية في فكر المواطن وتربيته وضميره تضخ فيه روح المسؤولية الجماعية تجاه الفرد، وروح المسؤولية الفردية تجاه الجماعة في دولة وطنية وقوية وتعددية. لم يفكر بشير في المركزية واللامركزية والفدرالية خارج وحدة الأمة اللبنانية. يومها كان هم بشير أن يرد عدوانا متعدد المصادر. لكن مشروع بشير الوطني ثابت بينما مشروعه الدستوري عرضة للتعديل من خلال حوار وطني. هل كان ديغول، وهو يقاوم، يعرف مصير الوجود الفرنسي في الجزائر؟ وهل كان يدرك أنه سيقر دستور الجمهورية الخامسة، واللامركزية المناطقية في فرنسا بعد وصوله إلى الرئاسة؟ كان يعرف أنه سيقاوم حتى تحرير فرنسا.

حين يحلم الشعب اللبناني لا يفكر بدولة الــــ100سنة، بل بدولة الـ21 يوما. بشير مرجعية الكرامة الوطنية والعزة والرئيس القوي. بك تليق الفخامة.