لقاء الحكومة اللبنانية طعن احتفال الأونيسكو

ضرب اتفاق الطائف أتى على يد مسؤولين سنة يمجدون الطائف ليلا ونهارا ويقدسونه ويرفضون المس بحرف من نصه.

بموازاة البحث عن نظام عالمي جديد، يجري التفتيش أيضا عن نظام إقليمي جديد في الشرق الأوسط الكبير، ويحصل كذلك التنقيب عن نظام لبناني جديد. لكن مجرد النظر إلى البنى الأولى لهذه الأنظمة الثلاثة، يكشف هشاشتها وصعوبة إنشائها رغم جميع الحروب والتحولات التي سبقتها. السبب العميق أنها ليست قائمة على استراتيجيات ثابتة ولا على الثوابت التاريخية القديمة والحديثة. واللافت حتى الآن أن الدول الكبرى تسعى إلى إقامة هذه الأنظمة من دون عقد مؤتمرات دولية خاصة بها خلافا لما جرى عشية وضع أنظمة عالمية وإقليمية بعد الحروب والأزمات الكبرى. إن دل هذا الأمر على شيء، فعلى أن الدول الكبرى ليست بعد متفاهمة على مجمل هذه الأنظمة وتنتظر تطورات أمنية وعسكرية تساعدها على خيار هذه الأنظمة الجديدة أو فقدان التوازن العالمي والإقليمي.

تصعب إقامة نظام عالمي جديد من دون روسيا وضد الصين ومرتكز على "أحدية" أميركية، خصوصا أن أميركا، رغم تفوقها العسكري، تجتاز أزمة وجودية وتحولا اجتماعيا مؤلـما.

ويتعذر إنشاء نظام إقليمي جديد مبني على إيران لأن هذه الدولة الفارسية ليست جغرافيا وحضاريا ولغويا جزءا عضويا من العالم العربي، وقلما لعبت دورا أساسيا في منطقة البحر الأبيض المتوسط، لاسيما أنها تعاني اليوم من اضطرابات أمنية لا نعرف حدودها، كما أن بسط النفوذ الإيراني يثير تركيا وإسرائيل علاوة على المملكة العربية السعودية.

ويستعصى بناء نظام لبناني جديد بمنأى عن الدور المسيحي الطليعي فيه. فمهما دارت الأمور سيظل الدور المسيحي أساسيا في دولة لبنان أكانت موحدة أم اتخذت شكلا آخر. إن محاولة عزل المسيحيين أو سيطرة مكونات أخرى على قرارهم ومناصبهم وصلاحياتهم لن تمر مرور الكرام. ومتابعة عملية تعطيل الانتخابات الرئاسية يدفع إلى الاعتقاد بأن استحقاق انتخاب رئيس جديد للجمهورية أصبح لدى البعض تفصيلا في ظل بحث مكونات لبنانية عن نظام آخر وعن رئاسة مختلفة. واستنادا إلى مرجع أوروبي مطلع، أكد الرئيسان الأميركي بايدن والفرنسي ماكرون إثر اجتماعهما أول هذا الشهر للبابا فرنسيس أن الوجود المسيحي في لبنان غير قابل المساومة رغم التسويات الجارية في المنطقة.

بيد أن الـمعضلة هي أن المكونات اللبنانية ليست متفقة لا على النظام القائم ولا على النظام البديل. لا يوجد مكون واثق من قدرته على ضبط عملية تغيير النظام: هل نبقى في "لبنان الكبير" مع تعديلات دستورية؟ هل نعود إلى أنظمة القرن التاسع عشر؟ الثابت أن الحد الأدنى الذي بلغته مساحة لبنان كانت "إمارة الجبل"، والحد الأقصى كان "لبنان الكبير". أما غير الثابت فهو أن بعض المكونات المتلهفة إلى دور أكبر، لا يهتم بالمساحة الوطنية بقدر ما يشغله الحصول على حصص في سلطة الدولة مهما كانت مساحتها. الخطورة في لبنان أننا نبحث عن "حق" من خلال انتمائنا الطائفي، وعن منقذ من خلال بيئاتنا الطائفية وليس من خلال البيئة الوطنية الجامعة. هذا المنطق يستتبعه تفكك الدولة وبعثرة الوطن، ويدفع ربما إلى حصول التغيير كأمر واقع لمدة طويلة قبل أن يشرعن. وأصلا إن الأزمة الدستورية والميثاقية افتعلها أطراف يهدفون الوصول إلى هذا الواقع المخيف.

خلافا لما نظن، ربما كان الصراع بين اللبنانيين نتاج الخوف من الخسارة في السباق نحو نظام جديد. والخوف يولد الأوهام الهدامة التي هي أخطر شيء على الإنسان. لذلك يفترض بجميع المكونات اللبنانية أن تستعيد مصادر قوتها الإيجابية وتبني مستقبلا مشتركا متمايزا. استعادة القوة الإيجابية تستلزم استرجاع العقل اللبناني النير لأن اللبنانيين حاليا في حالة شرود العقل وانفصاله عن الحكمة والقلب. يجب "تجريد" لبنان لنحبه. أي نقل لبنان إلى الحالة التجريدية الـمطهرة من السياسة والطائفية والعمالة والخيانة والفساد والأوساخ، لكي نستطيع أن نحبه.

لا يبدو أن المكونات اللبنانية في وارد العودة إلى العقل، لا بل تمعن في رفع سقوف التحدي الوطني والدستوري والميثاقي. والـمستهجن أن مسؤولين سنة، كانوا حتى الأمس القريب يشكون من تهميش دور السنة في الحياة السياسية، وكانوا يتهمون رئيس الجمهورية تارة والثنائي الشيعي طورا بالإفتئات من دورهم ومن اتفاق الطائف، التصقوا اليوم بموقف الثنائي ووضعوا الحكومة في تصرفه. هو يقرر متى تجتمع الحكومة، هو يؤمن نصاب الجلسة، وهو يختار جدول الأعمال. مثل هذا الموقف يحدث خللا في الصيغة اللبنانية ويبرر للذين يودون تعديلها أن يفعلوا.

غالبية الأطراف اللبنانية تعلن تأييدها "اتفاق الطائف"، وجميعها تطعن به منذ ثلاث وثلاثين سنة. وإذا "اتفاق الطائف" لا ينص على حضور جلسات انتخاب رئيس الجمهورية فعلام ينص؟ وإذا لا ينص على احترام أصول انعقاد مجلس الوزراء فعلام ينص؟ وإذا لا ينص على احترام صلاحيات رئيس الجمهورية في حضوره وغيابه فعلام ينص؟ وإذا لا ينص على احترام الميثاقية والشراكة الوطنية فعلام ينص؟ لقد سر اللبنانيون حين دعا السفير السعودي إلى احتفال جامع في الأونيسكو في 05/11 لإعطاء روح جديدة لاتفاق الطائف، فجاء اللقاء الوزاري في 06/12 ليضرب انطلاقة الطائف الجديدة في الصميم لأن انعقاده مناقض كليا دستور الطائف. والغريب أن ضرب الطائف أتى على يد مسؤولين سنة يمجدون الطائف ليلا ونهارا ويقدسونه ويرفضون المس بحرف من نصه.

إذا أهل الطائف تخلوا عنه ونكثوا التزامهم، فلا لوم على الذين قبلوا به مسايرة ومن دون اقتناع عميق. لذلك يفترض بالمملكة العربية السعودية ألا تكتفي باحتفال الأونيسكو، بل أن تتدخل بفاعلية ومباشرة لدى المحسوبين عليها أفرادا وجماعات. فلبنان في تطور نظامه الجديد يرتبط بمصير سوء أو حسن تطبيق اتفاق الطائف. لكن ما يحصل هذه الفترة، بل هذه السنوات الأخيرة، يعرض الطائف للخطر ويعرض معه الصيغة اللبنانية.