الاعتراف بلبنان فعل إيمان لا تسوية

ولاء اللبنانيين لبلادهم عقدة مزمنة واكبت دولة لبنان منذ نشوئها.

قبل أن يوقع بنجامين فرانكلين، البريطاني الأصل، في تموز/يوليو 1776 معاهدة الاستقلال الأميركي ويصبح أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، أعلن سنة 1760 بفخر وتباه، وهو يحيي الانتصار في معركة "الذئب" في سهول أبراهام الأميركية: "أنا بريطاني". لكن ما لبث أن تخلى عن جنسيته البريطانية وآمن في وجدانه العميق بـأن أميركا صارت دولة قائمة بذاتها، وعلى كل ساكن فيها أن ينسى أصوله الأولى ويضع عليها خطا أحمر قوميا لبناء الولايات المتحدة. ومنذ أن اعترف بالولايات المتحدة الأميركية وطنا نهائيا، أصبح ولاؤه الكامل "النهائي والثابت" لبلده الجديد.

الاعتراف بــ"لبنان وطنا نهائيا" ليس مجرد إقرار سياسي لتمرير تسوية دستورية لم يقبلها حزب الله وسواه. هو شعور فردي وجماعي يسكن وجداننا ومشاعرنا ولاوعينا أكان مذكورا في الدستور أم غير مذكور، وينتفض تلقائيا تجاه أي خطر يتعرض له لبنان. وهو شعور استقلالي يقطع الولاء نهائيا للبنان عن مواصلة الولاء لأصول غابر الزمان وأعراق وقوميات بائدة. أن أكون لبنانيا لا يعني الانغلاق على حضارات الآخرين وثقافاتهم شرقا وغربا، فالإنسان أصبح مواطنا عالميا. ولا يعني بالمقابل التذرع بالانتماء إلى المحيط لتبرير الولاء له أو التواطؤ معه مثلما يحصل بين جماعات لبنانية وعدد من دول الـمنطقة وكأن لا استقلال ولا ميثاق ولا "طائف"، وكأن الاعتراف بلبنان بالنسبة للبعض كان مناورة للحصول على تعديلات دستورية.

السلوك السياسي لجماعات لبنانية، إسلامية ومسيحية، لا تشير إلى أنه من وحي الاعتراف بأن لبنان وطنها النهائي. الواقع أن تبعية قيادات وتيارات مسيحية للخارج أصبحت لا تقل عن تبعية مذاهب وأحزاب إسلامية، لا بل إن المسلمين، وبخاصة الأحزاب الشيعية، هم وكلاء معتمدون، فيما مسيحيوهم وكلاء محليون يكفلهم حزب الله لدى دول الوصاية والاحتلال ("النار أهون من ركوب العار" ــــ علي بن أبي طالب).

هذه الجماعات مجتمعة جعلت لبنان ممرا لصراعات الـمنطقة، ومقرا دائما لدول أجنبية، ومصبغة لتغيير هويته وقيمه وخصوصيته. وآخر دليل على اللامبالاة في الاعتراف بلبنان هو ما يجري حيال رئاسة الجمهورية. فهل هناك أحزاب ونواب، وغالبيتهم ينتمون إلى أطراف كانوا في مؤتمر الطائف، يحبون وطنهم ويعتبرونه وطنهم النهائي يعطلون انتخاب رئيس بلادهم من دون رجفة أخلاق؟

زعماء وشخصيات إسلامية ما انتظروا سنة 1989 أن يدعوا إلى مؤتمر الطائف أو أن يطلعوا على وثيقة الطائف، وهي وثيقة وطنية، ليعترفوا بلبنان: رياض الصلح وصائب سلام وتمام سلام وشفيق الوزان وتقي الدين الصلح وسامي الصلح وكامل الأسعد وكاظم الخليل وعادل عسيران وشفيق الوزان على سبيل المثال لا الحصر، تعاطوا مع لبنان وطنا نهائيا ودافعوا عن استقلاله ضد جميع الذين اعتدوا على لبنان ودفعوا الثمن: فمنهم من هجر ونفي، ومنهم من أبعد عن الحكم، ومنهم من قدمت رؤوسهم على طبق من فضة لسوريا، ومنهم من هدمت بيوتهم كعثمان الدنا وغيره لأتهم ناصروا بشير الجميل وانتخبوه. وأصلا إن لبنان وطن نهائي قبل الطائف وقبل الاستقلال وقبل دولة لبنان الكبير. هو وطن نهائي عبر التاريخ ولا أحد يستطيع أن يلغيه لأنه سيواجه بما تستلزم المواجهة من وسائل ناجعة.

في هذا السياق، مسار الرئيس الشهيد رياض الصلح في لبنان سنة 1932 يشبه مسار بنجامين فرانكلين في أميركا. فالرياض كان ينادي بالوحدة مع سوريا وبإنشاء دولة سوريا الكبرى بين 1919 وأواسط الثلاثينيات. لكن سرعان ما نفض عنه ذاك المسار. وسنة 1943 لم يصبح شريكا مؤسسا لاستقلال لبنان فقط، بل أحد مؤسسي لبنان الجديد المستقل، ومعه صار المسلمون عنصرا تأسيسيا في دولة لبنان. صحيح أن المسيحيين أسسوا لبنان سنة 1920، ولكن المسلمين جددوا تأسيسه مع المسيحيين سنة 1943 على أساس دستوري حضاري مبني على السيادة والحياد والميثاقية والانفتاح والتخلي عن مطالب الوحدة مع أي دولة عربية. أما اليوم فنلاحظ أن من يريد أن يؤسس وحده لبنان له ولمناصريه.

ولاء اللبنانيين لبلادهم عقدة مزمنة واكبت دولة لبنان منذ نشوئها وفي كل الحالات: حين كان مزدهرا وحين كان راكدا. حين كانت في أواسط القرن الماضي نسب البطالة والفقر والمجاعة والهجرة منخفضة إلى حدها الأدنى، وحين أصبحت في السنوات العشر الأخيرة مرتفعة إلى حدها الأعلى. ظل موضوع الولاء مطروحا بسبب تبعية الشعب اللبناني لقيادات وأحزاب ربطت ولاءها للبنان بالسياسة ومصالحها، لا بالنمو والإنماء، ولا بالتقدم والبحبوحة. الخلاف على لبنان سياسي وديني مذهبي وليس اقتصاديا ولا إنمائيا.

في الدول الحضارية، يضاعف المواطنون، وحتى المهاجرون ولاءهم وانتماءهم لهذه الدول حين توفر لهم الحياة الراقية والخدمات والضمانات وفرص العمل ولا يعودون يهتمون إلا بشؤون دولتهم ولا يأبهون لأي دولة ولا للأحداث الخارجية. ينؤون عن المشاركة في حروب الآخرين إذ يعتبرون أن التضحية بحياة المواطنين تكشف مدى استخفاف بعض الجماعات والعقائد الدينية بالحياة والإنسان. الحقيقة، أن الحضارة قدمت للإنسان مجموعة خيارات سلمية لا تحصى لحل الأزمات والخلافات بين الأفراد والجماعات، منها الوحدة الحقيقية والانفصال والطلاق والمصالحة، لكيلا يهرول فورا إلى الحرب والقتال.

القاضي جون مارشال (1755 ـــــ 1835) رابع رئيس للمحكمة الأميركية العليا خير الهنود في أميركا بين الانتماء إلى قبائلهم التي كانت تشكل أمما هندية قائمة بذاتها، وبين الانتماء إلى المجتمع الأميركي ليصبحوا أميركيين. حسبنا نحن اللبنانيين أننا تخطينا هذه الحدود، ولم يعد عندنا هنود سوى العاملين مكان اليد العاملة اللبنانية.