أليست الحرب نزهة؟

صار سباق القوة هو أكثر السباقات جنيا للأموال.

تجمع البشرية على أن الحرب ليست نزهة. عسكريوها يعرفون ذلك أكثر من مدنييها. سادتها أكثر من عبيدها. مراهقوها أكثر من عقلائها. الحرب هي الحرب. ما من أحد انتصر فيها إلا وخرج منها مهزوما بطريقة أو بأخرى. تتساوى في ذلك كل الحروب بكل صفاتها. غير أن البشرية وبالرغم من كل هذه المصائب والكوارث والمآسي التي عاشتها لم تصل إلى مرحلة النضج التي تؤهلها لفهم المقولة التي تبدو يسيرة على الفهم والتي تؤكد أن الحرب ليست نزهة وأن القنابل ليست ورودا وأن ثياب المسلحين تترك الناس عراة وأن الكراهية التي تهدم لا يمكن أن تحل محل الحب الذي يبني.

لا تزال البشرية بالرغم من كل تمدنها وتحضرها تعيش في بدائيتها وتوحشها. في لحظة خاطفة تضيع كل منجزات الإنسان العاقل منذ عصر الزراعة حتى عصر غزو الفضاء والبحث عن أرض مضافة. لحظة غباء وجنون وحماقة تزلزل بنا الأرض وتخترق الزمن مثل قذيفة لتجعل الطرق سالكة بين ناطحات السحاب والكهوف. وعلينا أن نتخيل أن شركات الأدوية صارت تنتج سموما وأسواق العطور تبيع دخانا مسيلا للدموع وأن القوة المطلقة قد أغلقت أبواب فراديسها وفتحت أبواب جحيمها على مصاريعها. هل البشرية في حاجة إلى التأكد بأن ما تُسقطه الطائرات على رؤوس الأطفال ليست حلوى، بل قنابل حارقة؟

ولكن هل نحن ذاهبون إلى المستقبل أم متقهقرون إلى الماضي؟ لا تهبنا لغة القوة سوى فرصة واحدة. العودة إلى الغابة. ذلك كلام فيه قدر من الصحة، ولكنه ليس صحيحا بالكامل. فالغابة لها أنظمتها. ولو كانت الغابة مثلما يُخيل إلينا لانتهت الحياة فيها منذ ملايين السنين ولما بقي شيء من الحياة الحيوانية. في الحياة البشرية لا يرعى القوى الضعيف، بل يستغله، يضعه تحت إبطه أو تحت قدمه إن أبدى نوعا من الضجر أو التململ ولن يسمح له بالوصول إلى مرحلة التمرد. قوة اليوم ليست مثل قوة الأمس. فيها من الغدر والضعة والقذارة والرثاثة والخيانة ما لا يمكن تخيل حجمه. ولكن القوة هي القوة. عمياء في كل زمان ومكان.

الحروب هي عنوان القوة. صار سباق القوة هو أكثر السباقات جنيا للأموال. كل الدول صغيرها وكبيرها تعيش هاجس الفناء. أما أن تُفنى أو أن تفني. لا حل وسط. فالعقل الذي صنع قوة الإنسان ومكنه من الانتصار على الطبيعة ووهبه القدرة على أن يجعل حياته أقل صعوبة وسمح له بترويض الأمراض والعيش أكثر صار أداة بيد الأقوياء الذين هم من صنعه وهو ما جعله ضحية لهم. العقل هو أول المتضررين حين فلت منه زمام السيطرة. أكسبه المجانين كل صفاتهم فصرنا نتجول في حديقة، مهندسها عاقل وبستانيها مجنون. لن يتمكن أحد من الإفلات من مقص ذلك البستاني وبالأخص إذا كان من أتباع العقل.

"الحرب ليست نزهة". قالها عاقل غير أنه لم يقلها إلا بعد أن ارتكب حماقات وأخطاء وجرائم أضيفت ملفاتها إلى سجلات هي بحجم الكرة الأرضية. كرتنا لتي أُسقطت من الحسابات الكونية بكل عدالتها الرياضية. سيكون علينا أن نبرمج أفعالنا حسب البيانات التي تنتهي إليها مباريات كرة القدم. ذلك ليس رأسا بشريا كما يظهر في الكابوس، بل كرة قدم ملونة تلهو بها الأقدام في مباريات، جمهورها صم بكم. لا يسمعون ولا يتكلمون. مسرحية للحمقى الذين يمزجون الأفلام السينمائية بما يجري في الواقع ولكن السينما في هذه الحالة تسبق الواقع وليس العكس كما كان يجري في الماضي. لقد انتهت أسطورة رعاة البقر لتبدأ أسطورة المارينز. ينبغي علينا أن نكون مارينز لنظل أحياء ولو في ذاكرة نصب تذكاري يحتل مكانا مرموقا في مقبرة لا دين لها.

البشرية مسكينة. الكرة الأرضية مسكينة. الحضارة مسكينة غير أن الغابة مسكينة أيضا. القوة غدرت بالجميع. فبدلا من أن يتعلم الإنسان من تجاربه القاسية التي هزمته جاءت القوة لتكرس تلك التجارب. أوروبا وهي تساند القتل في غزة المسكينة لم تعد تنصت إلى ملايين القتلى من أبنائها الذين سقطوا في حروبها العبثية. تلك فقرة قد تكون صغيرة في سجل القوة التي غلبت الشر على الخير وتمكنت من العالم مثل هستيريا. صارت الدول تسعى إلى القوة لا لتتمكن من حماية نفسها بل وأيضا لكي تدخل إلى سباقها. دول كثيرة سقطت في ذلك السباق. كان الاتحاد السوفيتي في مقدمتها وكان العراق أصغرها وها هي إيران تلهث من أجل الوصول إلى نهاية السباق.