'أمة لا اسم لها'.. وماذا بعد؟!

في هذه السطور لم أسع إلى عرض هذا الكتاب للبحريني د. كاظم نادر أو نقده، لأن ذلك يحتاج إلى شرح وتفصيل أوسع.

بعد أن انتهيت من قراءة كتاب "أمة لا اسم لها.. من بناء الأمة إلى تفككها" للبحريني د. كاظم نادر.. تساءلت عن جدوى الجهد الذي بذله الكاتب وما الذي أراد قوله..؟ أعتقد أنه أراد أن يقدم لنا نصيحة أو يرغّبنا في حب الأوطان التي نعيش فيها وليست الأوطان "المتخيلة" تحت ضغط مشاعر قومية أو دينية أو طائفية.. الخ، لكني أيقنت أنه بعد أن شرّق بنا وغرّب وهو يعيد إلينا تجارب "الوحدويين" العرب، وكيفية استلهامهم لتجارب الآخرين، لاسيما ألمانيا، انتهى هو أيضا إلى مقولة لا نرى فيها جديدا يثير الاهتمام ويستحق هذا العناء.. لأن ما أراد قوله لم يختلف معه فيه البحرينيون ولا غيرهم، فالانتماء إلى ثقافة مشتركة تتجاوز الحدود السياسية لأي شعب في أية دولة لا تعني بالضرورة خيانة لمبدأ المواطنة، وإن تطرّف نفر قليل واندفاعهم مع مشاريع غير واقعية، لا يعكس هوية البلد ومن ثم يجرّده من اسمه أو يخل بوطنية السواد الأعظم من أبنائه..

يبدو لمن يقرأ الكتاب أن د. كاظم بقدر ما أراد أن يدين الخطاب القومي التقليدي وكذلك الخطاب الديني المتطرف، بعد أن عدّهما السبب الرئيس فيما حصل لنا، أو هكذا يعتقد، أراد ووفقا لاجتهاده أيضا إماطة اللثام عن أزمة ثقافة الهوية التي باتت تهدد وحدة الدول وتقسّم الشعوب، ولو كرّس جهده بهذا الاتجاه مستحضرا ما حصل لبعض البلدان العربية التي كادت تنتهي، لاسيما في حفلة "الربيع العربي" التي أعدّت تفاصيلها في الأقبية الدولية السوداء، لقدّم للقارئ شيئا يستحق الجهد الذي بذله، لكنه ومن حيث لا يقصد أعاد إنتاج الخطاب الذي أراد إدانته، لكن بشكل مقلوب!.. يبدأ الكتاب بواقعة من التاريخ القريب نسبيا في البحرين، خمسينيات القرن الماضي عندما نشرت مجلة بحرينية مقالا افتتاحيا تضمن كلمة "أمة" في إشارة إلى البحرين، فتثير هذه الكلمة حفيظة شاب بحريني "قومي" يدرس في لبنان وقتذاك، هو د. علي فخرو، إذ رأى أن العبارة غير مناسبة، فالبحرين جزء من أمة وليست أمة وتعتذر المجلة هي الأخرى عن هذا الخطأ غير المقصود.. وينتهي الكتاب بواقعتين مؤلمتين، يستدرج د.كاظم القارئ لهما بعد أن يعبر معه أكثر من أربعمائة صفحة، لتكونا بمثابة مقولة كتابه هذا أو أنهما جاءتا تتويجا لثقافة أزمة الهوية، كما يرى، والتي بدأت مع حادثة المجلة المشار إليها.. والواقعتان هذه المرة بسياق ثقافي مختلف، الأولى بطلها شاب بحريني "شيعي" يذهب للدراسة الدينية في إيران وحين تحصل الحرب العراقية الإيرانية ينخرط فيها بدوافع عقائدية "مذهبية" ويقتل بإحدى المعارك في الجبهة الشمالية علي يد قناص عراقي، ويدفن هناك، والثانية، لشاب بحريني آخر "سني" يذهب للدراسة في السعودية ومن ثم يجد نفسه مجندا للحرب في أفغانستان وبعدها في البوسنة ويقتل ويدفن هناك أيضا!

في رحلة كتابه الطويلة، يقف د.كاظم عند جذور الفكر الذي أوصلنا إلى هذه الحال، ويسهب كثيرا في ذلك، مستحضرا روّاد الفكر القومي العربي ومرجعياتهم الثقافية المفترضة، والتي يراها مترحلة من فكرة "الأمة الألمانية" المبثوثة في خطابات الفيلسوف الألماني (فيختة) الشهيرة قبل وحدة الامارات الألمانية، وحثّه على أن يكون لتلك الأمة دولة قومية، وسيتحقق هذا لاحقا على يد بسمارك في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وهي ثقافة يرى البعض أنها وضعت بذرة النازية التي ظهرت لاحقا!.. ويؤكد على أن هذه الثقافة المتطرفة والمنحرفة بمثابة المحفز الأكبر للقوميين العرب الذين تأثروا بها أو بخطابات فيختة وصاروا يتحدثون عن أمة عربية موحّدة يراها هو "متخيلة"!

وبعيدا عن الخوض في تفاصيل ما جاء في الكتاب واستشهاداته الكثيرة التي أراد من خلالها تعزيز وجهة نظره، التي تقول بضرورة الانتماء للبلد الذي بات باسمه المعروف كالبحرين مثلا، والابتعاد عن هذه الطوباويات السياسية، نرى أن ما يريده د.كاظم متحقق أصلا، لاسيما في دول الخليج، التي على الرغم من وشائج القربى بين شعوبها، وهي عامل مضاف للثقافة المشتركة، نرى أن أبناءها يتعصبون لبلدانهم بطريقة فيها شيء من التطرف، ويلاحظ هذا في البطولات الرياضية التي ينحاز كل مواطن أثناءها لبلده باسمه الذي اعتقد د. كاظم أن البحرينيين خسروه وبات أمة بلا اسم! انطلاقا من حوادث صغيرة ومتفرقة تحصل في أغلب دول العالم وأكثرها انسجاما وتمسكا بالوطنية..

شيء مهم يجدر التوقف عنده، هو استحضار د. كاظم لنموذجين من الأمة أو فهمها، ألماني ممثلا بخطابات الفيلسوف (فيختة) كما أشرنا، "ولد في منتصف القرن الثامن عشر وتوفي مطلع القرن التاسع عشر" وفرنسي ممثلا بطروحات "رينان" المؤرخ والمستشرق الشهير، "ولد في بداية القرن التاسع عشر وتوفي في آخره" ومن ثم إسقاط ذلك بطريقة تعسفية على تجربة الوحدويين العرب، وهنا يقع الكاتب في إشكال، كان عليه أن ينتبه إليه، فظروف "الولايات الألمانية" الممزقة قبل وحدتها في الربع الأخير من القرن التاسع عشر، تختلف وقتذاك عن ظروف فرنسا التي بالإضافة إلى كونها تنطوي على قوميات أخرى اندكت في الثقافة الفرنسية داخل حدود فرنسا الأوربية أو دكتها القومية الفرنسية الأكبر بداخلها! كان لفرنسا أيضا مستعمرات خارجها، فرضت على المثقفين الفرنسيين مراعاة ذلك للحفاظ على مصالحهم الاستعمارية، ولذا جاءت رؤية رينان أو طروحاته بشأن الأمة مختلفة عن رؤية الألمان الممزقين، وهو ما كان يقابله شعور مماثل لدى النخب العربية، لاسيما خلال الحقبة العثمانية، حيث شعوبهم ممزقة إلى ولايات واهنة وغارقة في الفقر والتخلف والضياع الحضاري، لاسيما بعد حملات التتريك وغيرها.

شخصيا لا أرى في مثل هذه الكتابات شيئا مفيدا، وهي لا تنطوي على أكثر من نصائح لم تعد صالحة، فالعالم اليوم بات يبحث عن مشتركات ثقافية أو يسعى إلى صناعتها ليمد الجسور لبعضه ويشكل تكتلات (براغماتية) سياسية واقتصادية وأمنية تخدم مصالح الناس وتحميهم من تغوّل الكبار وأحلافهم العسكرية وكارتلاتهم الاقتصادية الضخمة.. ولن يعيي البحث أحدا إن أراد التعرف على نماذج كثيرة موجودة اليوم في آسيا وأفريقيا وأوروبا وأميركا اللاتينية وغيرها.. نعم إن الآليات اختلفت عن النماذج الوحدوية السابقة، لأنها جاءت في سياق ظروف سياسية وثقافة مختلفة، لكن الجوهر يبقى واحدا، وهو المصالح.. ولو أن د. كاظم وظّف جهده في نقد التجارب الوحدوية العربية السابقة (الفاشلة) لتخطيها الأهم لصالح الأقل منه، لكان جهده أكثر فائدة، أي أنه لو تحدث عن ضرورة إيجاد صيغة للتكامل الاقتصادي أو الأمني العربي، بدلا من تجارب الوحدة الاندماجية، لأن البلاد العربية تتكون من مجموعة بلدان أو أمصار منذ القدم، ولأغلبها ثقافات راسخة خاصة بها، مثل العراق ومصر وبلاد الشام واليمن والجزيرة العربية وشمال أفريقيا وغيرها.. وقد توحدت هذه الثقافات أو الحضارات وتصاهرت بعد ظهور الإسلام قبل ألف وخمسمائة سنة تقريبا، وكرّست نموذجا موحدا للّغة، وهو المنجز الأهم حضاريا لأبنائها ويصعب التفريط به، وان الدعوات للتخلي عن العربية تقف خلفها يقظة الثقافات القارة القديمة المشار إليها، ولكنها تبقى دعوات لا قيمة عملية لها! أما الوحدة الاندماجية فهي مشروع فاشل، لأن أي من الأمصار العربية لن تقبل بتسيّد آخر عليه، في الأقل لزمن غير قليل قادم، وهذا هو المسكوت عنه في ثقافتنا السياسية عند نقد تجاربنا الفاشلة. وتجربة الوحدة المصرية السورية خير شاهد.

لم أسع من خلال هذه السطور إلى عرض هذا الكتاب أو نقده، لأن ذلك يحتاج إلى شرح وتفصيل أوسع قد يحتاج إلى عشرة أضعاف هذه السطور، وإنما توقفت عند خلاصته أو ما أعتقد أن الكاتب أراد إيصاله.. بدليل الاستشهادين الواردين في البداية والنهاية، والمؤكد أن فيه أشياء أخرى قد يرى البعض فيها إضافة.. متمنيا للمؤلف د. كاظم نادر الموفقية في مشروعه الثقافي، لاسيما أنه الآن في قمة عطائه.

الكتاب صدر عن دار الشؤون الثقافية في بغداد العام 2021.