أميركا... وكيميائي الغوطة

بعد مرور عشر سنوات على استخدام السلاح الكيميائي في غوطة دمشق، لا يزال النظام السوري قائما وإن على انقاض سوريا وإن في ظلّ خمسة احتلالات.

يبدو قصور السياسة الأميركيّة تجاه سوريا والشعب السوري من نوع السياسات التي ليس بعدها قصور. ليس ما يوحي بأنّ هذا القصور غير متعمّد. بعد عشر سنوات على مجزرة السلاح الكيميائي الذي استهدف اهل الغوطة، في محيط دمشق، يظهر واضحا أن الإدارات الأميركية الثلاث، منذ اندلاع الثورة السوريّة، لا تمتلك سوى هدف واحد. يتمثّل هذا الهدف في تفتيت هذا البلد في سياق إعادة رسم خريطة الشرق الأوسط لمصلحة ايران ومشروعها التوسعي. ليست هناك فوارق كبيرة، في ما يخص سوريا، بين إدارة باراك أوباما التي خلفتها إدارة دونالد ترامب ثم إدارة جو بايدن التي يمكن وصفها بالإدارة الحائرة.

في آب – أغسطس من العام 2013، كان باراك أوباما رئيسا للولايات المتّحدة. وقتذاك، هدّد الرئيس الأميركي بشار الأسد بعواقب وخيمة في حال لجوئه إلى استخدام السلاح الكيميائي في حربه على الشعب السوري. وصف استخدام مثل هذا السلاح بأنّه "خط أحمر" لن تسمح الولايات المتحدة بتجاوزه. ما حدث أن بشّار استخدم السلاح الكيميائي بعدما اقترب الثوار السوريون من قلب دمشق. كانت النتيجة قتل مئات السوريين واصابة آلاف بجروح. فجأة، بات أوباما يرى كلّ الألوان باستثناء اللون الأحمر الذي لم يعد له وجود، أقلّه بالنسبة إليه. ما الذي جعل الرئيس الأميركي يغيّر موقفه من استخدام السلاح الكيميائي، هو الذي قال في العام 2011، موجها كلامه إلى حسني مبارك (الرئيس المصري وقتذاك) أن عليه الرحيل "أمس قبل اليوم"؟

لم يلجأ حسني مبارك إلى السلاح الكيميائي ولا لأيّ نوع آخر من السلاح في المواجهة مع الإنتفاضة الشعبية المصريّة. فضّل في نهاية المطاف الانسحاب بعدما اكتشف أنّ الشعب، بأكثريته، يعارض بقاءه في السلطة فيما ليس ما يضمن ولاء الجيش لشخصه ومشروع توريث نجله جمال.

من دون مقدمات، تراجع أوباما عن استخدام القوّة في التعاطي مع بشّار الأسد. تبين لاحقا أن سببين يقفان وراء استدارته الكاملة. الأوّل الخوف على المفاوضات السرّية مع ايران في شأن ملفها النووي والآخر الدور الذي لعبه فلاديمير بوتين في إقناعه بحمل النظام السوري على التخلي عن مخزون السلاح الكيميائي الذي يمتلكه.

بعد مرور عشر سنوات على استخدام السلاح الكيميائي في غوطة دمشق، لا يزال النظام السوري قائما وإن على انقاض سوريا وإن في ظلّ خمسة احتلالات. ما لم يتغيّر أن ثورة الشعب السوري مستمرّة. يؤكّد ذلك أنّ تلك الثورة لم تكن ثورة عابرة ولن تكون وأنّ السوريين، جميع السوريين، يريدون التخلّص من نظام اقلّوي تدعمه ايران وروسيا. تريد الأكثريّة السوريّة التخلّص من نظام قتل ما لا يقلّ عن نصف مليون سوري وهجرّ نحو عشرة ملايين آخرين في الداخل السوري وإلى دول الجوار. لا وجود لحدّ ادنى من الاحترام لكرامة المواطن ما دام هذا النظام، المدين في بقائه لإيران وروسيا، موجودا.

اختزل باراك أوباما كلّ مشاكل المنطقة وازماتها بالملفّ النووي الإيراني. في صيف العام 2015 توصل إلى اتفاق مع "الجمهوريّة الإسلاميّة". كان الاتفاق بين مجموعة البلدان الخمسة ذات العضوية الدائمة في مجلس الأمن، زائدا المانيا من جهة وايران من جهة أخرى. لكنه كان في العمق اتفاقا اميركيا – إيرانيا. الدليل على ذلك أن الاتفاق لم يعد قائما عندما مزقه دونالد ترامب في أيّار – مايو من العام 2018.

صحيح أنّ هذا الاتفاق، الذي سعى إليه باراك أوباما، قيّد النشاط النووي لإيران في حدود معيّنة، لكنّ الصحيح أيضا أنّه وفّر لـ"الجمهوريّة الإسلاميّة" مليارات الدولارات انفقها "الحرس الثوري" على نشاط ميليشياته المذهبية في كلّ انحاء المنطقة، بما في ذلك سوريا. بفضل الدعم الروسي المباشر ابتداء من خريف العام 2015، تراجعت الثورة السورية التي هددت في مرحلة معيّنة الساحل، حيث الكثافة العلوية، ودمشق نفسها.

مكّن فلاديمير بوتين، الذي كان يعمل بالتفاهم الوثيق مع ايران وبالتنسيق مع "الحرس الثوري"، بشّار الأسد من البقاء في دمشق. أرسلت روسيا قاذفات إلى قاعدة حميميم القريبة من اللاذقية وفكت الحصار على الساحل السوري فيما تولت ميليشيات تابعة لإيران مساعدة بشّار الأسد ببسط سلطته في المناطق المحيطة في دمشق. هذه المناطق التي عادت تتحرّك اليوم في وقت تعمّ الإضطرابات الساحل السوري.

لم يتغيّر شيء في العمق السوري، هل تتغيّر اميركا؟

بعد عشر سنوات على استخدام الكيميائي في الغوطة وظهور التخاذل الأميركي، لا يزال الشعب السوري مصرّا على التغيير. ما الذي ستفعله الإدارة الأميركيّة الحالية التي باتت تعرف جيدا أنّ الفضل في بقاء بشّار الأسد في دمشق يعود إلى "الجمهوريّة الإسلاميّة" في ايران وإلى فلاديمير بوتين الذي يظنّ أن في استطاعته استعادة امجاد الإتحاد السوفياتي وتحويل الإتحاد الروسي إلي قطب عالمي عن طريق مغامرات من نوع المغامرة السوريّة.

ليس معروفا هل سيحصل تغيّر في الموقف الأميركي في المستقبل القريب. ليس معروفا هل يتبع جو بايدن الخط الذي اتبعه باراك أوباما، أم تتولد لديه قناعة بأن الرئيس السابق، الذي كان هو نائبا له، ارتكب في العام 2013 خطأ لا يغتفر عندما تراجع عن تهديداته لبشّار الأسد. ساهم هذا الخطأ في جعل فلاديمير بوتين يشعر بأنّ اميركا ليست دولة مهمّة وأنّ في استطاعته الضحك عليها، تماما كما حصل عندما اقنع باراك أوباما بالإكتفاء بسحب مخزون السلاح الكيميائي من سوريا. هذا الخطأ الذي ارتكبه أوباما جعل بوتين يعتقد أنّ غزو أوكرانيا سيكون مجرّد نزهة أخرى على طريقة نزهته السوريّة.

في غياب التغيير الأميركي، سيستمر الوضع السوري في التدهور. لا معنى آخر لهذا التدهور ولا نتيجة له سوى مزيد من التفتت لما كان يعرف بـ"الجمهوريّة العربيّة السوريّة". هل هذا ما تريده الولايات المتحدة وما تسعى إليه فعلا؟