لبنان في مضيقه السوري الحرج

لبنان اليوم حر ولأول مرة بعد خمسين سنة من الاستعباد الذي بدأ سورياً وانتهى إيرانياً.

أخطأ الرئيس اللبناني السابق أمين الجميل حين شبه موقف الرئيس السوري حافظ الأسد من لبنان بموقف الرئيس العراقي صدام حسين من الكويت. ذلك لأن سوريا التي مارست الوصاية السياسية على الدولة اللبنانية عبر حوالي عشرين سنة (1976 ــ 2005) لم تكن تنوي ضم لبنان إلى أراضيها في حين ضم العراق الكويت إلى أراضيه عام 1990 واعتبره واحدة من محافظاته لمدة ستة أشهر. فهل كان الأسد يفكر في لبنان سرا بالطريقة نفسها التي فكر من خلالها صدام في الكويت علنا وهو ما يضيف صفة جديدة تضاف إلى الصفات التي تضع الرئيسين في موقع الخصمين المختلفين لا بسبب اختلاف سياساتهما حسب بل وأيضا بسبب اختلاف شخصيتهما الصعبتين؟

لقد عانى الشعب اللبناني زمنا طويلا بسبب ما كانت تسميه أجزاء منه بـ"الاحتلال السوري" الذي لم يكن بالنسبة لها أقل سوءا من الاحتلال الإسرائيلي إذا لم يكن الأسوأ دائما. تلك معاناة رجل الشارع العادي الذي لا علاقة له بالسياسة ولا ببواطن الأمور ولا بتقلب المسارات على الساحتين الإقليمية والدولية بما أن لبنان قد بدأ حربه الأهلية بصراع بين قوى ليست كلها لبنانية. عانى اللبنانيون في حياتهم اليومية من هيمنة العسكري ورجل الأمن السوريين وزاد الأمر سوءا حين صار التابع اللبناني يمارس هيمنته التي هي من طراز محلي. غير أن الأطراف المناهضة للوجود السوري على أرض لبنان ظلت مصرة عل  نهجها في مقاومته. ولم تكن سلسلة الاغتيالات التي تعرض لها رجال الفكر والسياسة اللبنانيون إلا ثمنا لتلك المقاومة. 

أما وقد ارتكب النظام السوري الذي ورث رئيسه الإبن لبنان من والده الرئيس جريمة إغتيال الرئيس رفيق الحريري فقد شعر أن أوراقه صارت كلها محروقة وصار وجوده في لبنان مرتبطا بالجريمة التي اخترقت الدولة اللبنانية وأجهزتها بالعرض وبالطول. انتهت الهيمنة المباشرة لتبدأ الهيمنة غير المباشرة من خلال ممثل مزدوج لإنتدابين هذه المرة، سوري وإيراني. بعد حرب عام 2016 لم يجد اللبنانيون الذين فروا من الحرب التي أشعلها حزب الله غير سوريا ملاذا آمنا وبلدا مضيفا وشعبا كريما. لكن الحكاية لن تتوقف عند هذه الحدود الإنسانية. عام 2008 احتلت ميليشيا حزب الله بيروت لترد على منتقدي الكارثة التي سببها إشعال حرب عام 2006. استعاد اللبنانيون يومها ذكريات "الاحتلال السوري". كان الأسوأ ينتظرهم على البوابة السورية.

اليوم لم يعد هناك انتداب إيراني سوري في لبنان. لقد سقطت دولة حزب الله. انتهت هيمنته على القرار السياسي واحترقت أمواله وتقطعت خيوط اتصاله مع إيران من خلال سوريا التي تحررت من الوصاية الإيرانية. لبنان اليوم يستعيد شهقة الحياة الأخيرة التي أطلقها قبل أن تحل به كارثة ما سُمي بالحرب الأهلية التي لم تكن سوى حرب الآخرين على لبنان حسب تسمية غسان تويني. لبنان اليوم حر ولأول مرة بعد خمسين سنة من الاستعباد الذي بدأ سورياً وانتهى إيرانياً. غير أن المفاجئ أن لبنان حين تحرر من هيمنة حزب الله ومن خلاله من إيران كان السبب في أن تتحرر سوريا من حكم عائلة الأسد التي كانت قد قررت أن تحكم سوريا إلى الأبد. ما معنى ذلك؟

لبنان ضروري لسوريا التي هي ضرورية له. لا معنى للعودة إلى الظروف التي تأسس من خلالها الكيان السياسي للبنان الحديث. لبنان هو حضارته وصلته التاريخية بالعالم وفينيقييه وجغرافيته وعادات شعبه وصولا إلى درجة ذائقة الغذائية هو كيان مستقل عن سوريا. لا يشبهها ولا مزاج شعبه يشبه مزاج شعبها. لذلك لم يكن محو لبنان سياسيا أمرا حسنا بالنسبة لسوريا. ذلك ما زادها عمى. ولكن سوريا التي تحررت من نظام الأسد تحكمها اليوم جبهة لنصرة أو هيئة تحرير الشام وهي الفصيل الذي ساهم مع داعش في اختطاف عدد من الجنود اللبنانيين عام 2014 في عرسال وهي بلدة تقع على الحدود اللبنانية السورية. تلك ثغرة لا يمكن للرئيس اللبناني جوزيف عون الذي كان يومها قائدا للجيش أن يجتازها كما لو أنها غير موجودة.        

لبنان لا يزال بلدا جريحا. لا تكفي نظرية الأخ الأكبر لتنسيه جروحه. نهاية الهيمنة السورية شيء وذكريات الجريمة التي صار مرتكبوها سادة لسوريا شيء آخر. لذلك من المستبعد أن تقوم علاقات طبيعية بين لبنان وسوريا في الوقت الذي لم تتحرر سوريا من قبضة مرتكبي الجرائم في لبنان .