فيلم سوري طويل

الأخطر أن هناك مَن قرر أن تكون سوريا صورة عن إدلب التي سُمح لحاكم سوريا الجديد في أن يقيم عليها دولته.

حين تم ترحيل بشار الأسد إلى موسكو لم ينته الفيلم السوري. ولأن الواقع يقلد السينما في بعض الأحيان فإن مات ممثل الدور الرئيس في الفيلم يتم استبداله بممثل آخر. وهو ما حدث في سوريا.

مَن تفاءل بنهاية الفيلم السوري لم يلتفت إلى أحوال الجار الشرقي لسوريا. أقصد لعراق الذي على الرغم من مضي أكثر من عشرين سنة على سقوط نظام صدام حسين يبدو فيلمه كما لو أنه لم ينه الجزء الأول منه.

الحكاية لا تقتصر على النظام السياسي أو شكل الدولة أو مشكلات الحكم أي مَن يحكم وبأية طريقة، بل تغوص عميقا في تاريخ البنية الاجتماعية المعقدة في البلدين. وهما بلدان متشابهان حتى في مصائبهما وويلاتهما.

طالما كانت الفيسفساء الاجتماعية في البلدين مثار فخر واعتزاز لمواطنيهما. طبعا هناك الكثير من المزاح الذي يميز علاقة الطوائف والأعراق، بعضها بالبعض الآخر وهوما كان نظام سياسي قوي يضبطه عند حدود الفكاهة والضحك البريء. ولأن المواطنة كانت تقف عند حدودها الدنيا بسبب ما كانت السلطة المستبدة تحتاجه من مساحات حركة فقد كان الحديث عن الأقليات طبيعيا وكأن حماية تلك الأقليات هي ما أضفت على النظام مزيدا من الشرعية والحق في البقاء.

ما كان يُقال عن نظام الأسدين سبق وأن قيل عن نظام صدام حسين. ستكون الأقليات في خطر إن سقط النظام. ذلك لم يمنع السنة في العراق على سبيل المثال من التآمر على صدام حسين ولم يبعد الشبهات عن الكثير من العلويين في سوريا وهم الذين يُفترض أن يكونوا أول المستفيدين من بقاء حاكم علوي على رأس السلطة.

ما أكدته الوقائع أن ذلك الكلام كان صحيحا. لقد تعرضت الأقليات في العراق بعد الاحتلال الأميركي إلى مجازر وعمليات تهجير واسعة. لم يبق أحد من الصائبة المندائيين. المسيحيون انخفض عددهم من ثلاثة ملايين إلى ما يقل عن الربع مليون. معروف ما تعرض له الأيزيديون من عمليات قتل وتهجير ومشهورة أسواق السبايا الأيزيديات. أما سنة العراق فقد تعاون الأميركان والميليشيات الإيرانية على إبادتهم وتدمير مدنهم وتهجيرهم ومنع الكثيرين منهم من العودة إلى بيوتهم لتي سبق لتنظيم داعش أن استولى عليها.

وفي الفيلم العراقي ملايين التفاصيل الصغيرة التي يعجز كتاب الواقعية السحرية عن التقاطها وتسخيرها سرديا. ليس في ذلك ما يدعو إلى الشعور بالأمل.

حين كان صدام حسين في عز قوته لم يكن يتوقع بقاء العراق من بعده "سأتركه ترابا". فعلى الرغم من طول الفترة التي حكم فيها فإن الظروف التي كان الجزء الأكبر منها من صنعه لم تسمح له ببناء دولة المواطنة التي تبقى قوية ومصانة بمعزل عن نوع النظام الحاكم وشخصية الرئيس. لقد أُجبر العراقيون مرات عديدة على مبايعة صدام حسين رئيسا.

وإذا كانت سوريا لم تتعرض لما تعرض له العراق من صدمات عظمى وإنهيارات فلكية فإن المواطنة فيها كانت في أسوأ أحوالها وأدنى مستوياتها. كان النظام القمعي هو الذي يضبط مزاج الشارع وهو الذي يبرمج علاقات شرائح المجتمع بعضها بالبعض الآخر في سياق رؤية أمنية أخطر ما فيها أنها ساوت بين الأفكار المعارضة والأفعال الهدامة، فسعت إلى إشاعة التجهيل اعتمادا على وسائل بدائية في التضليل. فكان شعار "الأسد أو نحرق البلد" بمثابة تكرار لمقولة "العراق الذي سيكون تراباً".

كانت انتقالة الحكم من بشار الأسد إلى ابو محمد الجولاني ركيكة جدا. ولو كُلف كاتب سيناريو مبتدئ بكتابة هذا المقطع من الفيلم لبحث عن حكاية تبدو أشد اقناعا وأكثر اثارة. أما أن يتم تسليم سوريا لجماعة ظلامية سبق للعالم أن حكم عليها بالإرهاب وخصصت الولايات المتحدة مكافأة لمَن يدلي بمعلومات عن زعيمها الذي صار اليوم يُخاطب بالسيد الرئيس فذلك يعني أن الفيلم السوري قد تم انتاجه بطريقة فقيرة عوضت من خلالها دول ما أنفقته من أموال طائلة في دعم المنظمات والجماعات المسلحة التي حاربت في سوريا عبر الثلاثة عشر سنة الماضية.

سوريا اليوم ليست دولة مستقلة ولا أراضيها موحدة. هناك مناطق كثيرة محتلة منها. غير أن الأشد خطرا أن الميليشيا العقائدية التي تحكمها لا تعرف شيئا عنها. أولا لأنها متشددة طائفيا ولا تحترم حق الاختلاف وثانيا لأن الناطقين بغير العربية يديرون جزءا من أجنحتها المقاتلة وثالثا وهو الأخطر أن هناك مَن قرر أن تكون سوريا صورة عن إدلب التي سُمح لحاكم سوريا الجديد في أن يقيم عليها دولته.