أوروبا بين المطرقة والسندان

لا يمكن أن لا يعقد الأوروبيون الشبه بين النزعة الوطنية الألمانية المتطرفة والتي صعدت كردة فعل على الإذلال الذي لحق بألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وبين النزعة الوطنية الروسية المتطرفة الصاعدة كرد فعل على إذلال الغرب لروسيا.

لم تكد أوروبا تبعد عن مخيلتها شبح الحرب العالمية الثانية وما جرته من المآسي والآلام والدمار حتى استيقظت على عودة ذلك الشبح لكن بأسلحة لا يكاد يصدقها العقل، ليست أسلحة الحرب العالمية الثانية مقارنة معها سوى ألعاب أطفال.

يتذكر الجيل السابق كيف أن ألمانيا النازية أشعلت الحرب ضمن دوافع توسعية بعد أن اتفقت سرا مع الاتحاد السوفييتي على اقتسام بولندا، وليست النازية سيئة الذكر سوى الوطنية الألمانية المتطرفة الساعية إلى الهيمنة وضم البلدان بالقوة العسكرية.

لا يمكن أن لا يعقد الأوروبيون الشبه بين النزعة الوطنية الألمانية المتطرفة والتي صعدت كردة فعل على الإذلال الذي لحق بألمانيا بعد هزيمتها في الحرب العالمية الأولى وبين النزعة الوطنية الروسية المتطرفة الصاعدة كرد فعل على إذلال الغرب لروسيا وتجاهل قوتها ومكانتها، وتحويل مجالها الحيوي إلى ميدان لتهديدها ومحاصرتها.

كما لا يمكن تفادي عقد الشبه بين غزو روسيا لأوكرانيا ومحاولة سحقها وضمها لروسيا ضمن ادعاءات حول الروابط التاريخية والعرقية بين الروس والأوكرانيين وبين غزو ألمانيا لبولندا وضمها لجزء من الأرض البولندية ضمن رؤية مشابهة لتحقيق ألمانيا الكبرى أيضا.

ومحصلة ذلك التشابه المدهش أن الحرب العالمية الثالثة لم تعد مجرد هواجس بعيدة عن أفكار الأجيال الجديدة، لكنها أصبحت بالنسبة للأوروبيين كابوسا حقيقيا.

ومثلما دفعت أوروبا باهظا ثمن الحرب العالمية الثانية، فهي ترى اليوم أن الحرب التي بدأت على الأرض الأوروبية ستدفع ثمنها أوروبا أولا في حال توسعت إلى حرب عالمية.

نجح الرئيس بوتين في حملته العسكرية على أوكرانيا في إيقاظ أعمق المخاوف الأوروبية من روسيا ومن الحرب أيضا، فأوروبا وبدافع خوفها من القوة العسكرية الروسية سعت خلال العقود الماضية لاحتواء الدولة الروسية عن طريق زيادة التبادل التجاري معها، وتمثل خطوط الإمداد بالغاز أوضح الأمثلة على تلك السياسة. وتحصل أوروبا على نحو 40% من احتياجاتها من الغاز من روسيا قبل حرب أوكرانيا، مقابل عائدات لروسيا بمئات المليارات من الدولارات.

صحيح أن أوروبا مستفيدة من الغاز الروسي الرخيص بسبب قربه الجغرافي من الأسواق المستهلكة الأوروبية لكن الصحيح أيضا أن بناء تلك الخطوط كان يعني مد جسور الصداقة وتبادل المنفعة مع روسيا على أمل أن تطغى المصالح المتبادلة على مشاعر الحذر والمخاوف القديمة المختزنة.

أما الآن فقد انهارت تلك الجسور من الثقة والصداقة، وليس من السهل إعادة المياه إلى مجاريها في الأمد القريب.

محصلة ما سبق أن أوروبا أصبحت محكومة بالخوف من روسيا، الخوف الذي يدفعها باتجاهين متناقضين، فهي تشعر أن إضعاف روسيا عسكريا واقتصاديا أصبح ضرورة لأمن أوروبا، على الأقل ريثما يتبدل النظام في روسيا ويأتي غورباتشوف جديد يعيد هيكلة السياسة الروسية وينهي الحقبة البوتينية.

وبالطبع فإن الوسيلة المثلى لإضعاف روسيا هي الإستفادة من تورطها في الحرب الأوكرانية لإطالة أمد الحرب واستنزافها لأقصى حد ممكن، إضافة لتشديد العقوبات الإقتصادية والعزل السياسي. وهنا تتقاطع المصالح الأوروبية مع المصلحة الأميركية في التخلص من الخطر الروسي.

لكن الخوف يدفع أوروبا باتجاه آخر مناقض لما سبق، فقوتها العسكرية المحدودة والأسلحة الفتاكة التي تمتلكها روسيا بما في ذلك الأسلحة النووية، وما أظهره بوتين من العناد والصلابة وإحكام قبضته على الداخل الروسي كل ذلك يجعل أوروبا تفكر مرتين في أنها ستكون في فوهة المدفع إذا توسعت الحرب، وأن الولايات المتحدة ستجلس في المقاعد الخلفية تراقب الموت والدمار في أوروبا، ومصير أوروبا سيعود ثانية ليرتهن للولايات المتحدة لعقود طويلة قادمة، في حين لم تكد أوروبا تتنفس قليلا من هواء الإستقلال عن الهيمنة الأميركية.

أضف إلى ذلك الثمن الباهظ الذي بدأت تدفعه أوروبا بسبب المقاطعة للغاز الروسي وأيضا بسبب نفقات دعم الحرب في أوكرانيا واحتواء ملايين اللاجئين الأوكرانيين.

فهنا يدفع الخوف أوروبا إلى البحث عن أية وسيلة لإنهاء الحرب حتى لو كانت على حساب أوكرانيا، ومحاولة ترميم الجسور مع روسيا وتطبيع العلاقات معها حتى لو اقتضى الأمر الافتراق عن السياسة الأميركية وإعادة تموضع السياسة الأوروبية في مكان وسط أو مكان يمكن وصفه بالمنزلة بين المنزلتين.

وهكذا نرى أن أوروبا أصبحت بين المطرقة والسندان. وعليها أن تختار بين أمرين أحلاهما مر.